في مجموعة «‏ نافذة للصمت» للقاص هشام أزكيض .

حزن الألم والوحدة في ذاكرة محبوسة .

يعتقد الفلاسفة أن الصمت يوفّر للفرد فضاءً للتعبير عمّا يجول في عقله أكثر مما توفّره له الكلمات، فيما يقول الشاعر جلال الدين الرومي «لقد اخترتُ أن أحبكَ في صمت لأنك، في الصمت، لن ترفضيني.» تملّكني شعور بالهدوء والإنسيابية وأنا أقرأ بشيءٍ من التأني في صفحات نافِذَةٌ لِلْصَّمْتْ، المجموعة القصصية الأولى للكاتب الصحفي هشام أزكيض، لفيض الهدوء الهادر في هذه القصص ... الممهورة بذكرياتٍ صغيرة من مشاهد طفولة الحي الذي استبد به الشوق إليه. لقد ذكّرتني ارتدادات هشام إلى لحظاته العتيقة بطريقة تناول التفاصيل الصغيرة لحارات وشوارع وبيوت مدينة دبلن التي صوّرها الكاتب الإيرلندي الكبير جيمس جويس ببراعةٍ وصدقٍ وحميمية في مجموعته القصصية الشهيرة ناس من دبلن والتي يكشف فيها عن طموح جيل يرنو إلى مُثل عليا، باحثًا عن الجذور التي تشكل أنساغًا صاعدة، رغم أن جويس، الكاتب الذي كان حينئذٍ يتلمّس طريق الشهرة، كان – في غربته الأوربية – بعيدًا عن تلك المدينة الجميلة، تفصله عنها وعن ذكريات طفولته وصباه آلافٌ من الأميال القاسية. في نافِذَةٌ لِلْصَّمْتْ، تتداعي المعاني وتتوالى الأحداث بهدوء شديد يتماهى مع الصمت الكامن، بعنفوان، في عنوان المجموعة. وتُراني أجابه ذاك الصمت في كلّ منعطفٍ يجابهني على امتداد المساحة الممتدة من بداية المجموعة القصصية حتى نهايتها. فكلّ ما فيها من إشارات ينبئ بأن الحدث لن يجرؤ على تجاوز حدود الصمت المكبّل بالجدران العديدة، جدران الزنازين، جدران الغرف المظلمة، الغرف التي لا نوافذ فيها، جدران السجون التي فقدت الذاكرة والغيوم التي خاصمها المطر فلم يعد أمام هذا الكاتب المهموم بذكرياته سوى أن يلوذ بالصمت كي ينقل لنا، نحن القراء، هذا الحزن الشفيف الذي يرافق خطواته في دروب الحياة فتكاد تختفي الحبكة وتضيع في متاهات تلك الدروب. والمجموعة القصصية هذه تضم أكثر من عشرين قصة قصيرة تتماهى بهدوء مع صمت العنوان ومع المفردات المنسابة دون ضجيج لدرجةٍ أن القاريء، ربما دون إرادته، يرى ذاته صامتًا وسط عالَمٍ من السكون. وحينما نتواجه للمرة الأولى مع سطور القصة الثالثة، القصة التي تحمل عنوان المجموعة، نافِذَةٌ لِلْصَّمْتْ، ننخرط في موجة سكونٍ مفاجئ تصيّره غرفةٌ مغلقة بإحكام ليس فيها «سوى نافذة صغيرة جدًا خلفها جدارٌ أكثر إعتامًا من محاولات النافذة للإمساك بخيوط الشمس.» وهنا تكمن قدرة الكاتب في أن يفرش أفكاره على مساحة اللغة، في فضاءات المفردات التي تناثرت في مسامات السجن من وطأة الوحدة ومن آهات الأحلام المنهوبة. إنه حزن الألم والوحدة والوحشة، الحزن الشفيف الذي يمس تلابيب القلب ويتسرب في الأوردة والشرايين، تجوالًا تائهًا حتى يستقر في الذاكرة، الذاكرة المتهمة، الذاكرة المحبوسة، الذاكرة المقطوعة. وحينما تصطدم الدموع بانهمار الذكريات وتكون طاولات المقهى فارغة إلا من حبات المطر الساقط بصمت، تكتسب أيام الشتاء الصامتة ذهولها من غموضٍ وكوابيس صامتة وجدرانٍ تتخللها الكآبة. وتفاجئني المفردات، الصمت والزنزانة، وذاكرة الغيمة، والأحلام المنهوبة، والعمر الهارب، والهاتف الأخير، أنها تبقى تراقب، على الهامش، حركية الحبكة المكبوتة وهو ما يشبه غياب الضجيج في قصيدة لقاءٌ في الليل للشاعر الفكتوري الشهير روبرت براوننغ. ففي تلك القصيدة الجميلة، لا يستخدم براوننغ أيّ فعلٍ حركيّ طوال رحلته عبر البحيرة أو الحقول نحو كوخ حبيبته. لقد كان بهذا يتفادى الضجيج ويحافظ على سريّة هذا اللقاء من خلال صمت المفردات وسكونها. هشام أزكيض يفعل هذا: يلوذ الضجيج بالصمت، ربما في كلِّ فضاءٍ من فضاءات مجموعته القصصية الأولى، رغم أن الزوايا المعتمة تصرخ من فرط الألم تحت سلاسل الزنزانة التي وأدت قلبها. * كاتب وأكاديمي ومترجم عراقي