شارع المتنبي..

ذاكرة بغداد التي لاتشيخ.

حين تمشي في شارع المتنبي لاتحتاج الى دليل سياحي او خريطة ورقية، لأن الحبر هو الذي يقودك للمكتبات. اصوات باعة الكتب تمتزج بشعر المتنبي ومقاطع الجواهري وخيالات السياب. انها بغداد.. المدينة التي لم تحرقها نيران العصابات الداعشية بل تحدت ذلك (كطائر العنقاء الذي نهض من رماده) . شارع المتنبي تاريخا تاريخ شارع المتنبي لا يموت. تعود جذور الشارع الى العهد العباسي اذ كان قريبا من دار الحكمة وموقعه بين الرصافة ونهر دجلة جعله محورا للتجارة والعلم والثقافة، وزاد اهتمام الشارع في العهد العثماني ، ارتبط بالشاعر أبي الطيب المتنبي ليعكس هوية ثقافية ظلت تشكل طوال القرن العشرين .في بداية القرن العشرين برزت منه المطابع ودور النشر حيث يوجد ٢٠٠ مكتبة وكشك ومطبعة ومن اشهر المكتبات في شارع المتنبي مكتبة المثنى ومكتبة دار الوراق ومكتبة الجوادين ، فصار مع الوقت ملتقى للطلبة والمفكرين والشعراء والفنانين . شارع المتني نجا من حروب كارثية واخرها تحدى التفجيرات التي تعرض لها وظل رغم الالم انتصر الورق والحرف على قوى الظلام حيث تم اعادة بنائه من قبل الحكومة وبشكله الحضاري بما يليق باسمه . منذ سنوات تحول يوم الجمعة في شارع المتنبي الى حدث ثقافي لايعلن عنه لكنه ينظم كأنه مهرجان مدبر بالهام شعبي وبشكل عفوي ومنذ ساعات الصباح الاولى يفد الزوار من كل محافظات العراق ويزوره العرب والاجانب ، لهذا الشارع حتى يخيل للزائر انه في ساحة وطنية وتجمع جماهيري دون موعد انه شارع الثقافة ، في بغداد. معارض فنية في الهواء الطلق يعرض الرسامون لوحاتهم على الجدران يجذبون بها الانظار بعيون عراقية والوان الرافدين. في منتصف الشارع وانت تسير تلاحظ الحفلات الموسيقية حيث يجلس جمهور كبير امام فرقة موسيقية شعبية تعزف على العود والناي تتعالى اغنيات بغدادية وعلى الهواء وهناك فرقة الجالغي البغدادي التراثية يصفق لها الجمهور وهناك شاعرة او شاعر يلقي قصيدته قال لي الشاب الموسيقي جابر احمد وهو يعزف وسط زحام ،هذا ليس مجرد عرض نحن شعب يعشق الحياة نرد على العنف بالنغم نقول للعالم بغداد تصنع الحياة رغم كل شيء . وفي طريقي نحو مقهى الشابندر التي تقع في قلب شارع المتنبي لاخذ شيء من الاستراحة وتناول قدح من الشاي في هذا الجو اللهاب ( الحار ) . الشاعرة التي أتت من مدينة الحلة الى شارع المتنبي فائزه فاضل قالت : آتي كل يوم جمعة اقود مركبتي الى بغداد وعلى وجه التحديد شارع المتنبي لاقرأ قصائدي هنا للجمهور الذي يستمع لي ويعطيني ملاحظاته لانه جمهور حقيقي لايجامل ولايهادن من هنا اصقل موهبتي . أما الكاتب المسرحي موسى احمد فقال : شارع المتنبي هو مسرحي الاول حقا لأعرض نصوصي المسرحية لمختصين لأتقبل ملاحظاتهم وتلقيت النقد كثيرا وهذا ما اريده حتى ابني نصوصي صحيحا ، لان شارع المتنبي يصنع الكاتب والشاعر والفنان بلا منازع . ثم التقيت زائر من البصرة صباح البصري الذي قال : كل اسبوعين ازور شارع المتنبي حيث اقود مركبتي اكثر من اربعة ساعات لاصل هنا. انا لا اشتري كتب فقط بل اتنفس شعرا ومسرحا وموسيقى ونقدا وغير ذلك . ثم حاورت الشاعرة الشابة أمل الخزعلي من مدينة الديوانية تبعد عن بغداد (١٠٠كم ) التي قالت : أتيت الى شارع المتنبي لابيع ديواني الثاني وبطبعته الثانية لان المتنبي منصة الشعراء الغير رسمية اذا احبك جمهور المتنبي فانت شاعر حقيقي . فالح عدنان المؤرخ البغدادي قال لي وهو يضع مجموعة من الكتب على رصيف شارع المتنبي: هذا الشارع هو شارع الذاكرة العراقية لاتوجد زاوية هنا إلا وتحمل بصمة مؤلف او اثر قارىء او نفس شاعر او بصمة فنان بارع . رواد الشارع شارع المتنبي في بغداد ليس مجرد شارع للكتب فقط بل هو ملتقى نخبوي وتاريخي ارتاده عبر عقود من الزمن ابرز الشخصيات الادبية والفكرية والثقافية والسياسية ، فصار شارع المتنبي صالون لبغداد الثقافي المفتوح تحت السماء ومن أبرز رواد الشارع على مدى تاريخه : الشاعر محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس عمارة ونازك الملائكة .ومن الفنانين يوسف العاني وحاتم الصكر وجعفر السعدي والاديب وفخري كريم وخزعل الماجدي ومن السياسيين عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء السابق والزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الجمهورية العراقية انذاك وفاضل الجمالي وغيرهم . وهكذا يبقى شارع المتنبي أكثر من مجرد زقاقٍ في قلب بغداد، بل هو نَبْضُها الثقافي وذاكرتها الحية، حيث تتعانق رائحة الكتب مع عبق التاريخ، وتُحكى الحكايات على أرصفة الحنين. كل خطوة فيه تنبض بالحكمة، وكل وجه يعكس قصة عشق أبدية للكلمة. فالمتنبي ليس شارعاً... بل هو وطنٌ للحرف، ومرفأٌ للأرواح العاشقة للضوء.