كقنديل البحر كالضياء في وسط العتمة..

البحر و اللحظات الخالدة.

تتجلى عظمة الله سبحانه و تعالى في خلقه، الذي أوجد في عالمنا ما يستوجب التفكر فيه من أكبر مخلوقاته إلى أصغرها مما لا يرى حتى بالعين المجردة، كما أوجد من حولنا المظاهر الطبيعية الآسرة بمختلف تضاريسها و ألوانها الخلابة. هذه المناظر الطبيعية المتنوعة من جبال و هضاب و سهول و غيرها الكثير بالإضافة إلى التنوع الموزون في الكائنات الحية المنتشرة في مختلف بقاع الأرض أمور حصلت على اهتمام العديد من البشر إن لم يكن أغلبيتهم، لما فيها من معان تلامس مشاعرهم و رسائل وجدت طريقها إلى خواطرهم. هذه الأحاسيس النابعة من التواجد في الأماكن الطبيعية و التي تشق طريقها لنفوس البشر لم تأت من فراغ، فالطبيعة ملاذ للبشر من الضجيج و وجهة لهم لتخليد لحظات الفرح و ملجأ لهم مما عجزت غيرها من الأماكن فهمه عنهم، فهي رفيقة الفرح و الحزن و إن تباين المنظر و الشعور، فمن البشر من يصبو نحو الأنهار أو شرايين الحياة كما يطلق عليها، و منهم من جعل من تسلق الجبال هواية لا غنى له عنها، و منهم من اكتفى بالتمعن بزرقة السماء و أشكال الغيوم و اختلاف أنواع الطيور العابرة في هذه اللوحة القيمة، و منهم من هوى البحر و جعل منه داراً و وطناً، من سطحه الذي انعكست عليه زرقة السماء، إلى أعماقه التي ملأت النفوس بمشاعر الرهبة و التعظيم لصنع الخالق جل جلاله. عالم البحار عالم لا متناهي ارتبط بمفاهيم الأسرار و الغموض، عالم يضج بالغرائب و العجائب التي تتعاظم في الأنفس عند استذكارها. هذا البحر الذي قد يبدو سطحه الأزرق هادئاً في كثير من الأحيان لمرتاديه ممن أرادوا امضاء بعض الوقت برفقته، يضج بأعماق احتضنت تنوعاً حيوياً رهيباً و تلونت بشتى ألوان الحياة، فسطح البحر أشبه بالبوابة السرية لعالم ضم منظومات حيوية بمقاييس دقيقة لا مثيل لها، تحمل في جعبتها من العبر و الدروس ما قد يستفيد منه الإنسان ما إن سمح لها بالعبور إلى ذهنه و قلبه. الكائنات البحرية بمختلف أشكالها و ألوانها و أحجامها، من ألطف الكائنات إلى أشدها افتراساً، ممن يعيش في مجموعات و ممن يعيش وحيداً، من العوالق التي تطفو على سطح الماء، و السابحات التي تتواجد في أعماق المحيط، و القاعيات التي اتخذت من قاع المحيط مسكناً لها، بالإضافة إلى الأعشاب البحرية و مجاميع الطحالب و الشعب المرجانية، جميعها أشبه بعوالم تقطن عالمنا ذاته لكن في الخفاء، تحت سطح البحر الساكن يوماً و تحت رهبة الأمواج العاتية في أيام أخرى، عالم قد يستحيل على المرء تصديق تفاصيله لولا ما أثبتته الدراسات المطولة و الأبحاث العلمية بالإضافة إلى التوثيق المصور بشتى أنواعه. و على الرغم من كثرة المعلومات التي بلغتنا عن البحار و ما تحتويه في وقتنا الحالي، إلا أن علماء البحار و خبراء الأحياء البحرية صرحوا بأن ما تم اكتشافه عن البحار يمثل حوالي ٥٪ فقط مما تحتويه في الواقع، عبارة لا يمكن سماعها من دون استذكار قول الله سبحانه و تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. لذا، البحار بحد ذاتها أغلى و أعلى قيمة من الكنوز التي يعتقد بأنها فقدت في قيعانها على مر السنين و العقود، ففيها من الأحاسيس ما يرضي الشعراء و من العلم ما يحيي فضول العلماء و من الغموض ما يتناسب مع كيان الحالمين. البحر رفيق الشعراء، و من أروع ما سطر الشاعر اللبناني القدير إيليا أبو ماضي عن البحر في قصيدة الطلاسم: قد سألت البحر يوماً هل أنا يا بحر منكا؟ هل صحيح ما رواه بعضهم عني و عنكا؟ أم ترى ما زعموا زوراً و بهتاناً و إفكاً؟ ضحكت أمواجه مني و قالت : لست أدري! فيك مثلي أيها الجبار أصداف و رمل إنما أنت بلا ظل و لي في الأرض ظل إنما أنت بلا عقل و لي يا بحر عقل فلماذا يا ترى أمضي و تبقى؟ لست أدري! البحار اقترنت بالظلمة و الرهبة و الغدر، لكنها علمتنا أن نكون نحن النور و السكون و الوفاء، كقنديل البحر، كالضياء في وسط العتمة. أخيراً، من العبارات التي تتكرر على المسامع هي تلك المتعلقة برمي الهموم و الأحزان في البحر، ليأخذها الموج بعيداً بلا عودة، و هو الأمر الذي يعد أحد الخطوات التي تأخذ بالإنسان إلى حالة نفسية أفضل. قد يتحدث الإنسان عما يرهقه لمن يعز عليه و يصفه بأدق المفردات و بفصاحة تكاد تقارن بفصاحة أجل الأدباء، و في اللحظة التالية يدرك بأن أكثر ما هو بحاجة إليه الآن هو بعض الوقت مع نفسه، و هذه هي اللحظة ذاتها التي قد يتجه فيها البعض ممن حظي بتواجد البحار في مكان تواجده إليها. و علي النقيض من ذلك، فالبحار وجهة للأنفس الفرحة، للمحبة الطاهرة، للاحتفال بالإنجازات و إن صغرت، و لضحكات الأطفال البريئة. و كما نرمي هموماً بين هذه الأمواج، فنحن نرمي في طياتها بدعوات قلبية صادقة ترافقها دمعة حائرة و ابتسامة راضية لمن غابوا عن دنيانا بأعلى مراتب الجنة عند رب العالمين.