من أوائل من حصل على الشهادة الجامعية في المملكة:

عبدالله عبدالجبار.. شيخ النقاد وأستاذ الوزراء والأدباء.

عندما يرد ذكر النقد الأدبي في المملكة فإن اسم عبدالله عبدالجبار يأتي في المقدمة، فهو رائد النقد الحديث وواضع أسسه وقواعده ومنهجه، وهو أيضًا من العشرة الأوائل الذين حصلوا على الشهادة الجامعية في المملكة العربية السعودية، وكان يلقب بـ (الأستاذ) حيث تخرج على يديه العديد من الوزراء والسفراء والأدباء البارزين، منهم على سبيل المثال عبدالعزيز الخويطر وعبدالوهاب عبدالواسع وأحمد زكي يماني وغيرهم، كما كان يعرف بـ «شيخ النقاد». ولد عبدالله أحمد عبدالجبار عام 1338هـ (1919م) في حارة « سوق الليل» المجاورة للحرم المكي الشريف، وبدأ تعليمه مبكرًا حيث درس مبادئ القراءة والكتابة والقرآن الكريم وهو في الخامسة من عمره على يد « الفقيهة» جواهر عبدالهادي الفقيه، قبل أن يلتحق بالمدرسة الفخرية العثمانية ثم تخرج من مدرسة الفلاح، وفي عام 1936 كان ضمن طلاب الدفعة الثانية من مبتعثي مدرسة تحضير البعثات الذين أمر الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، بإرسالهم إلى مصر للتخصص في مختلف العلوم والمعارف، حيث أمضى هناك أربع سنوات دارسًا في كلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا) وتخرج منها بشهادة ليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية ليكون بذلك أحد أوائل الجامعيين في المملكة. مسيرة تعليمية حافلة بعد عودته من الدراسة الجامعية في مصر كانت أبواب الوظائف الحكومية مشرعة أمامه، لكنه اختار أن يكون معلمًا ومربيًا للأجيال لإيمانه بأهمية التعليم ودوره في بناء الأمة ونهضة الأوطان، فعمل مدرسًا بمدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، قبل أن يعين في عام 1947م مديرًا للمعهد العلمي السعودي بمكة، ثم مديرًا لمدرسة المعلمين الليلية بمكة بعدها بعام، وذلك ما جعله يشرف على تعليم مجموعة من الشخصيات البارزة في المملكة، وينسب له الفضل في ترسيخ بعض الأساليب التربوية الحديثة في مناهج التعليم السعودية، كما كان حريصًا على إقامة «ندوة المسامرات الأدبية» التي كانت من أبرز الأنشطة الثقافية والأدبية بالنسبة للطلاب، وأسهمت في انطلاق عدد كبير من الأدباء والمثقفين في المملكة العربية السعودية. وقد شهد له العديد من الأساتذة الأفاضل بعبقرية أسلوبه في التدريس وذلك في كتاب الأستاذ عبدالله بغدادي (ندوة المسارات الأدبية) حيث قال الأستاذ عبدالله حبابي: “كان طرحه التدريسي يقفز على ذلك النمط التقليدي الذي يعتمد على مجرد القراءة الرتيبة أو الحفظ الممل.. ومن هنا كنا نقبل على حصصه بشغف.. لما لأسلوبه من تأثير يبعث فينا مكامن الانتشاء، ويغرس في عقولنا ووجداننا المادة الدراسية”، ويؤكد ذلك أيضًا الأستاذ عبدالله بوقس بقوله: “وأستاذنا شخصية فذة قل أن يجود الزمان بمثلها، درسنا على يده الأدب العربي وتاريخه.. فحببنا في فنون الأدب شعره ونثره، وعرفنا بالأدباء والمفكرين: قدامى ومحدثين... وكنا ننصت إلى درسه باهتمام؛ لأنه كان يخاطب عقولنا وأفئدتنا، ونشعر أن تعبيراته (سيمفونية) جميلة تخاطب وجداننا وأحاسيسنا”. أما الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع فيقول: “تعلمت دراسة الأدب العربي من أستاذنا الكبير عبدالله عبدالجبّار.. وكان يتسم بعمق المفهوم لهذه المادة، ومتميزًا في حقل التدريس.. وقد أسهم في إقامة (المسامرات الأدبية) لتحضير البعثات والمعهد العلمي السعودي.. واستطاع بجهوده الفياضة وحسه أن يعمق مفهوم (الخطابة) وحسن (الإلقاء) وحسن (الكتابة).. كما أدخل (المسرح المدرسي)، وكانت كل هذه البدايات هي التي استطاعت أن تنتج شبابًا -بعد حين- في هذه المجالات”. واستمر عبدالجبار في عمله حتى نهاية العام 1368هـ الذي شده فيها الحنين بالعودة إلى مصر واستكمال الدراسة العليا بها، لكنه فوجئ بترشيح نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز له لتولي منصب مراقب عام البعثات العلمية بمصر فتسلم ذلك المنصب وظل به مستكملًا رسالته التربوية حتى عام 1374هـ. وتناغم عبدالجبار مع الحياة الأدبية والثقافية في مصر التي ظل بها مدة عشرين عامًا، حيث استزاد من العلم والثقافة والمعرفة والمطالعة بالعربية وغيرها من اللغات حيث كان يتقن الإنجليزية ويعرف شيئًا من الفرنسية والألمانية، كما حرص على حضور الصالونات الأدبية ولقاء رموز الفكر والثقافة والفن من أبناء مصر وضيوفها، وبعدها حول شقته في الجيزة إلى صالون أدبي يجتمع فيه بالأدباء والمثقفين من الشباب وأهل الخبرة، إلى أن أسس مع مجموعة منهم “رابطة الأدب الحديث” وكان مشرفًا عليها إذ تبنى من خلالها مجموعة من المواهب الأدبية والثقافية وساهم في صقل موهبتهم والأخذ بيدهم وذلك ما أكسبه مكانة كبيرة وشهرة، بالإضافة إلى دماثة أخلاقه وتواضعه ونبله الذي يعرفه كل من قابله. وسنحت للأستاذ عبدالجبار فرصة لا تفوت لاستكمال رحلته التربوية وتقديم إبداعاته وأطروحاته عندما استعان به معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية لإلقاء مجموعة من المحاضرات، فقدم فيها عصارة خبراته وعرف فيها بتاريخ وثقافة وأدب بلاده، وألقى محاضراته الشهيرة عن (التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية)، وكان أول مفكر تربوي وأدبي سعودي يمثَّل بلاده على المستوى العربي، وزادت شعبيته وشهرته في الأوساط الأدبية بعد أن لمس الجميع ما يقدمه من فكر نير ودراسات متعمقة وأسلوب جذاب. لندن محطته التالية بعد القاهرة ترك عبدالجبار مصر بعد أن شهدت بعض التغييرات والأحداث السياسية حيث أُعتقل ظلمًا مع مجموعة من الأدباء والمثقفين، وبعد أن أُفرج عنه لثبوت براءته وحصوله على اعتذار رسمي شد رحاله صوب لندن لتكون وجهته التالية، حيث أنشأ في العاصمة البريطانية بطلب الملحق التعليمي السعودي الأستاذ عبدالعزيز بن منصور التركي، مدرسة لتعليم أبناء وبنات السعوديين والجالية العربية، ورسم الخطط لمناهجها ومقرراتها الدراسية وتنظيمها التربوي بفضل حنكته وخبرته التربوية الواسعة، وكانت تلك المدرسة النواة التي تحولت فيما بعد إلى أكاديمية الملك فهد. ظل عبدالجبار في العاصمة البريطانية عقدًا من الزمن، آثر بعده العودة للوطن، حيث عين مستشارًا ثقافيًا لشركة تهامة للإعلان والعلاقات العامة التي كانت قد تأسست عام 1974، ومستشارًا لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، لكنه لم يمكث طويلًا حيث فضل التفرغ للكتابة الصحفية والاستزادة من الثقافة والعلم الذي حرمه من الزواج حيث عاش وحيدًا طوال حياته، وكان يجيب دومًا على من يسأله عن سر عدم زواجه بأنه “تزوج العلم”. وفي جدة، أنشأ عبدالجبار صالونه الأدبي الذي كان يقيمه كل ثلاثاء ثم آثر أن يكون كل سبت، وكان يعج بالعديد من الأدباء والمثقفين ورجال الصحافة والإعلام. مؤلفاته في عام 1952 أصدر أول مؤلفاته وهو كتاب «مرصاد المرصاد» الذي كان عبارة عن دراسة نقدية، وفي عام 1958 تعاون مع عميد كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر د. محمد عبدالمنعم خفاجي في إصدار كتاب «قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي» أحد المراجع الموسوعية الهامة في الأدب الحجازي والسعودي، وبعدها بعام صدر له كتاب «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية»، وهو عبارة عن دراسة أكاديمية منهجية من وحي المحاضرات التي ألقاها في معهد الدراسات العربية العالية التابع للجامعة العربية، مع تركيز على أثر البيئة في النتاج الشعري لمنطقة الجزيرة العربية وتحليل للتيارات الأدبية المتنوعة. ويعترف عبدالجبار بصعوبة الكتابة في هذا الفن من الأدب، لكنه قدم منهجًا علميًا واضحًا رسم الطريق لمن بعده من النقاد حيث قال في مقدمة الكتاب: “تظهر هذه المحاضرات بين دفتي كتاب ستكون أول كتاب في هذا الموضوع، وحسبي أنني وضعت معالم ومشاعل على الدرب ليهتدي بها الدارسون، وحسبي كذلك أني استخرجت شيئًا من كنوز هذه القارة المجهولة، ورسمت خطوطًا عامة وزوايا خاصة، كل خط أو زاوية يمكن أن يفرد بدراسة خاصة”. كما صدر له كتاب مهم حمل عنوان «الغزو الفكري في العالم العربي»، أظهر فيه أساليب المستعمر في تذويب الروح الوطنية وإغراء أصحاب العقول والهمم بالهجرة للغرب، مقدمًا فيه مقترحاته لوضع حد لذلك الغزو الفكري. وفي مجال القصة ألف عبدالجبار قصة بعنوان “العم سحتوت” لتحذير شباب الأمة من الأمور البغيضة المنتشرة في المجتمع، كما ألف قصة مؤثرة اسمها “أمي” قال عنها الأستاذ محمد الحوماني: “لم يبكني فيما قرأتُ من قصص بالعربية سوى ثلاث روايات: مجدولين ترجمة المنفلوطي، وآلام فورتر ترجمة الزيات، وأمي تأليف عبد الله عبد الجبار”، وله أيضًا قصة حملت عنوان “ساعي البريد”. وفي المسرح، كتب الأستاذ عبدالجبار مسرحية إذاعية أسماها “الشياطين الخرس” عدها الكثيرون من أبرز المسرحيات النقدية الهادفة. كما كتب عبدالجبار مقدمات العديد من الكتب الأدبية حيث عرف عنه إسهابه في ذلك حتى يظن البعض أنها كتاب آخر بحد ذاته، ومنها: مقدمة كتاب «الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث» لمصطفى السحرتي، ومقدمة كتاب «المستشرقون والإسلام» لحسين الهراوي، ومقدمة ديوان «طيور الأبابيل» لإبراهيم فلالي، ومقدمة قصة «ثمن التضحية» لحامد دمنهوري. اختير الأستاذ عبدالله عبدالجبار «شخصية العام الثقافية» في مهرجان الجنادرية الحادي والعشرين عام 1427هـ، ومــُنح وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، كما أطلق اسمه على أحد شوارع كورنيش جدة. توفي رحمه الله عام 1432هـ وصلي عليه في المسجد الحرام بمكة المكرمة ووري الثرى بمقبرة المعلاة.