السياحة الريفية في مدينة عنيزة ..
مزارع حاضنة للتراث ونموذج ريادي للتنمية المستدامة تحقيقاً لرؤية 2030 .

تزخر مدينة عنيزة في محافظة القصيم بتاريخ عريق وتراث غني، وتبرز فيها السياحة الريفية من خلال مزارعها السياحية كنموذجٍ فريدٍ يجمع بين الأصالة والحداثة. ففي هذه الواحات الخضراء، لا يقتصر الأمر على مجرد قضاء وقت ممتع في أحضان الطبيعة، بل يتعداه إلى تجربة ثقافية عميقة تُسهم في حفظ التراث وتنشيط السياحة الريفية، وهو ما يتماشى تمامًا مع مستهدفات رؤية المملكة العربية السعودية2030، الرامية إلى تنويع مصادر الدخل وترسيخ مكانة المملكة كوجهة سياحية رائدة عالمياً. تفتح المزارع السياحية في عنيزة أبوابها للزوار لتُقدم لهم لمحةً حيةً عن الحياة الزراعية التقليدية التي لطالما ميّزت المنطقة. هنا، يمكن للزائر أن يشاهد عن كثب طرق الزراعة التقليدية، ويتعرف على أنواع النخيل المختلفة التي تشتهر بها القصيم، ويشارك في جني التمور في موسمها، وغيرها من المحاصيل الزراعية التي تشتهر بها المنطقة كالفواكه والخضروات، وهي تجربةٌ تُعيد إحياء الصلة بالأرض وتُعزز من فهم الممارسات الزراعية المتوارثة عبر الأجيال. إن هذه المشاركة لا تقتصر على الجانب الترفيهي فحسب، بل تُعتبر جزءًا أصيلًا من عملية حفظ التراث، حيث تُنقل المعرفة والمهارات من المزارعين المحليين إلى الزوار، مما يُسهم في استدامة هذه الممارسات وعدم اندثارها. هذا التفاعل المباشر بين الأجيال يُعزز من قيمة التراث اللامادي، ويُضمن بقاء هذه المعارف حيةً ومتجددةً، وهو ما يدعم محور “وطن طموح” في الرؤية، والذي يسعى إلى تعزيز الهوية الوطنية والحفاظ على التراث الغني للمملكة. فالمزارع هنا لا تعرض التراث فحسب، بل تتيح للزوار أن يكونوا جزءًا فاعلاً في استمراريته، وهو ما يتماشى مع توجه الرؤية نحو تقديم تجارب سياحية ثقافية أصيلة. وإلى جانب الزراعة، تُقدم المزارع السياحية في عنيزة فرصةً للاطلاع على جوانب أخرى من التراث المحلي. فكثيرٌ من هذه المزارع يضمّ بيوتًا تراثيةً مُرمّمةً أو مُعاد بناؤها بطرازٍ معماريٍّ يُحاكي الماضي، مما يُتيح للزائر فرصةً للتعرف على نمط الحياة القديم، وأساليب البناء التقليدية، وحتى الأدوات المنزلية التي كانت تُستخدم في السابق. وقد تُعرض فيها أيضًا حرف يدوية تقليدية، كصناعة السدو أو المشغولات الخشبية، مما يُضيف بُعدًا ثقافيًا آخر للزيارة ويُشجع على تقدير الفنون المحلية الأصيلة. هذه المكونات التراثية لا تُعرض كمعروضات صامتة، بل تُدمج غالبًا في تجربة الزوار من خلال ورش عمل أو عروض حية، مما يجعل التفاعل مع التراث أكثر حيوية وجاذبية. من هذا المنطلق، تُصبح المزارع بمثابة متاحف حية تُعيد إحياء الماضي بكل تفاصيله، وتُساهم في تحقيق هدف رؤية السعودية 2030 المتمثل في إثراء التجربة الثقافية للسياح وجذبهم لاكتشاف الثراء التاريخي للمملكة، بما يتجاوز المواقع الأثرية المعروفة ليشمل النسيج الاجتماعي والثقافي الحي. ولا يقتصر دور المزارع السياحية على حفظ التراث فحسب، بل يمتد ليشمل تنشيط السياحة الريفية بشكلٍ فعال، وهو هدف استراتيجي لرؤية السعودية 2030 التي تسعى إلى زيادة عدد الزيارات السنوية إلى المملكة. فبتوفير أماكن إقامة ريفية مريحة، ومطاعم تُقدم الأطباق المحلية الأصيلة المحضّرة من منتجات المزرعة الطازجة، وأنشطة ترفيهية متنوعة تتناسب مع البيئة الريفية، تُصبح هذه المزارع وجهةً متكاملةً تُرضي مختلف الأذواق. يُمكن للزوار الاستمتاع بوجبات الإفطار تحت ظلال النخيل، أو التجول بين البساتين، أو حتى المشاركة في فعاليات ثقافية وفنية تُنظم داخل المزارع. هذه التجارب الفريدة تُسهم في جذب السياح من داخل المملكة وخارجها، وتُشجعهم على استكشاف جوانب جديدة من السياحة بعيدًا عن المدن الصاخبة، مما يُعيد توزيع الفوائد الاقتصادية للسياحة لتشمل المجتمعات الريفية. وتكتسب هذه المزارع أهمية خاصة ضمن “مسار الشمال السياحي” الذي أعلنت الهيئة السعودية للسياحة عن إطلاقه بين منطقتي الرياض والقصيم، حيث تُشكل نقطة جذب أساسية تُثري التجربة السياحية الشاملة في المنطقة وتُقدم تنوعًا يُكمل الوجهات الأخرى على هذا المسار. كما أن انتشار المقاهي العصرية داخل هذه المزارع أو بالقرب منها يُضيف بُعدًا جديدًا لتجربة الزائر، حيث تُقدم لهم مساحة للاسترخاء والاستمتاع بالمشروبات والوجبات الخفيفة في أجواء ريفية ساحرة، مما يُعزز من جاذبية المزارع ويُطيل من مدة إقامة الزوار ويُشجع على الزيارات المتكررة، وهو ما يدعم بشكل مباشر هدف رؤية السعودية 2030 في تنويع مصادر الدخل الوطني من خلال قطاع السياحة المتنامي وزيادة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي. أما عن دور الاستدامة، فهو يتجلى في جوانب متعددة داخل هذه المزارع، وهو ما ينسجم تمامًا مع مستهدفات “اقتصاد مزدهر” و”بيئة عامرة” في رؤية السعودية 2030. إذ تشجع هذه المزارع على تبني ممارسات زراعية مستدامة وصديقة للبيئة، مثل استخدام المياه بكفاءة، وتقليل استخدام المبيدات الكيميائية، وإدارة النفايات العضوية لتحويلها إلى سماد، تُسهم في زيادة الوعي بأهمية الحفاظ على الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي للأجيال القادمة. كما أن التركيز على المنتجات المحلية الطازجة، بل وحتى المنتجات المصنوعة يدويًا داخل المزرعة، يُقلل من البصمة الكربونية المرتبطة بالنقل، ويُعزز من الاقتصاد المحلي من خلال دعم المنتجين الصغار. فهذه المزارع السياحية ليست مجرد وجهات ترفيهية، بل أسهمت في تنويع مصادر الدخل للمزارعين حيث لم يعد دخلهم يعتمد كلياً على بيع المحاصيل الزراعية، كما خلقت فرص عمل جديدة للسكان المحليين في مجالات الإدارة , الضيافة, والنشطة الزراعية , كما تحفز القطاعات الخرى كالفنادق والمطاعم والنقل والتسويق، مما يُسهم في تنويع مصادر الدخل، وبالتالي تُحقق هدف رؤية السعودية 2030 في تمكين المواطنين وخلق فرص عمل جديدة في القطاع السياحي بحلول 2030. لتُصبح هذه المزارع بذلك موارد اقتصادية حيوية، تُسهم في الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة، وتُعزز من قيمتها الاقتصادية والتراثية، وتُرسخ مبدأ الاقتصاد الدائري المستدام. وعلى الصعيد الاجتماعي، تلعب المزارع السياحية دورًا حيويًا في تعزيز الروابط المجتمعية والحفاظ على النسيج الاجتماعي للمنطقة، وهو ما يتواءم مع محور “مجتمع حيوي” في رؤية السعودية 2030 الذي يهدف إلى بناء مجتمع تتسم أفراده بالصحة والقوة والإنتاجية. فهي تُوفر مساحات للتفاعل بين أفراد المجتمع المحلي وبينهم وبين الزوار، مما يُسهم في تبادل الثقافات والتعرف على أنماط حياة مختلفة. من خلال ما تنظمه هذه المزارع غالبًا من فعاليات اجتماعية وثقافية تُشجع على لم شمل العائلات والأصدقاء، مثل الأمسيات التراثية، أو ورش العمل التقليدية، أو الاحتفالات بالمواسم الزراعية، مما يُعزز من الشعور بالانتماء للمكان والهوية المحلية. كما أنها تُسهم في إعادة إحياء بعض العادات والتقاليد الاجتماعية التي قد تكون قد تلاشت في غمرة الحياة الحديثة، مثل تبادل الحديث تحت ظلال النخيل أو المشاركة في إعداد الأطباق التقليدية، مما يعزز من الترابط الأسري والمجتمعي. إضافة إلى ذلك، تُقدم هذه المزارع مساحةً للأطفال للتعرف على الحياة الريفية والزراعة، وتُعلمهم قيمة العمل اليدوي وأهمية الحفاظ على البيئة والتراث، مما يُسهم في بناء جيل واعٍ ومدرك لقيم مجتمعه ومساهم فعال في تحقيق أهداف الرؤية. وبالتالي، تُرسخ عنيزة نفسها كنموذجٍ رائدٍ للسياحة الريفية المستدامة التي لا تُصون الماضي فحسب، بل تُضيء المستقبل من خلال بناء مجتمع متماسك ومزدهر اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، لتكون جزءًا لا يتجزأ من مسيرة المملكة العربية السعودية نحو تحقيق رؤيتها الطموحة 2030، في بناء وطن يزدهر فيه التراث وينمو فيه الاقتصاد بفضل أبنائه. * أستاذ التاريخ القديم المساعد – جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل