
الفنان السعودي حسين المصوف نشأ على مواويل البحر و شجن اليامال وحركة الصيادين الدؤوبة فأخذه جمال البحر عن كل شيء حوله، زرقته، جزره حتى تآلف مع أدق التفاصيل فيه، وجدتُ ذلك جلياً بزيارتي لمرسمه لأشاهد عن قرب هذه التجربة التي تزخر بالماء و تسيل بالدفء، حيث الألوان وكثافتها، قوتها وسحرها لدرجة غياب الفكرة و حضورها في آن و هذا قمة التشظي و الانصهار الذي يُمكن أن نُسميه التماهي على اختلاف درجاته و تكهناته باللوحة و بالنظر كذلك . كيف نشاهد اللون الأسود في البحر؟ وكيف نقف بدهشة السؤال عند اللون الأحمر؟ الطبيعة وعين الفنان ترى مالا نرى مثل عين الصقر لكن المتلقي له رأي و المشهدية تفضح و تُفصح و تتأول أيضا كلما أطلنا اللحظة و امتدّت بنا أبجدية الصمت . ربما هي المرة الأولى التي أصادف فيها استخدام كائنات حية ضمن عمل فني في اللوحة التي هي عبارة عن حالة جزر عرَّت قاع البحر ، وجعلت من كائن (النو) مزروعا بمجمل أرجائها ؛ فهل أراد الفنان أن يُحدِّثنا عما يلتصق بالذاكرة من محبة لا تزول أو يترك أثرا -و يمضي- كما يفعل النو؟ هذا الكائن متشبث بالحياة و لا يمكن أن يترك مكانا تعلق به أبدا ، و إذا ما تدخلت أي جهة في عالمه فهو يترك أثرا بالغ السوء لا يزول، كائن صعب المراس يلتصق بالحجر وجسد السفن و ظهر السلاحف ، حاد و يؤذي الغافلين والعابرين من البشر على السواحل. هي سابقة فريدة في استخدام الحيوات ومعالجتها تتطلب جهدا كبيرا ومخيالا خصبا وكأن البيئة البحرية خرجت بشكل مقنن للوحة لم ينقصها سوى الماء الذي هرب للبحر ، و لكنك تكاد تلمسه لمس اليد وتراه أمام عينيك في اللوحة. تجربتان أحدها تتحدث عن الولادة، الولادة الإنسانية وولادة الأفكار، مع انحياز تجربة الولادة لألوان أكثر بهجة و أكثر تعالقا على مستوى الكتلة، حتى تجد نفسك عند مخاض لا تعرف متى ينتهي وكيف يتشكل . عالم داخلي في رحم الفنان ، في عالم يصرخ ويبحث عن ضوء يسبح مثل الحلم الذي يأتي بالبشارات على أن الأحلام كما نعرفها على قدر خيالك تجعل منها فريدة حينا ونادرة حد المستحيل إلا ان ريشة الفنان قادرة على تثبيت وتسجيل ذلك الحلم عبر لوحة تشكيلية باهرة وهذا سر جمال لوحات الفنان السعودي حسين المصوف. المصوف الذي تركني دون ان ينطق بكلمة، قدم كوب القهوة لي وأدار اسطوانة ام كلثوم ونأى بنفسه بعيدا شارد الذهن وكأنه يقول: «إنها ذاكرةٌ اتركها خلفي ، فكونو أوفياء لذاكرتكم ما استطعتم و تناولوا المستحيل في أفكاركم لعلها تتحقق» و هكذا تتدرج لغة الفنان بإبداعه لفكرة غير مسبوقة كما يراها أو لأسلوب مبتكر يُراهن على اختلافه و استمراره بوعي المتلقي الذي يتشارك معه بقراءة موازية و حياة افتراضية يعيشها على جادّة الألواح .