
في أوائل عام 2018، شعرت الأوساط الأدبية العالمية بحالة من الصدمة والذهول، حينما نشر الكاتب الأميركي روبن سلون أول رواية كاملة في تاريخ الأدب، مكتوبة باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي. الرواية ذات العنوان الغريب «مستر بنامبريس 24- أور بوكستور»، أثارت أيضاً تساؤلات حول قدرة الآلة على كتابة رواية، من المُفترض أنها تحمل قيمة إنسانية ما. كما فتحت الرواية الباب لجدال واسع النطاق في الصحف العالمية، وبين الجمهور، وتخوّفات مُعتبرة حول مصير قدرة البشر الإبداعية، إذا ما اقتحمت الآلات عالم الأدب، فما الذي سيتبقى للجنس البشري؟ كانت الفكرة التي نفذّها الكاتب بنفسه، هي تزويد برنامج الذكاء المُصطنع بأعمال أشهر المؤلفين الكلاسيكيين الأمريكان، أمثال إرنست هيمنغواي وجون شتاينبك وسكوت فيتزجيرالد وغيرهم. وبعد انتهاء البرمجة، كتب روبن سلون بنفسه مفتتح الرواية من عبارة واحدة، على سبيل التحفير للآلة، وهي: «اجتمعت ثيران البيسون الأمريكية في أرجاء الوادي». ثم ضغط على زر، فجاءته الصياغة الكاملة للعبارة هكذا: «اجتمعت ثيران البيسون الأمريكية في أرجاء الوادي على مقربة من السماء الجرداء». وهي بداية موفقة لرواية كلاسيكية من الطراز الأول! والفكرة الأساسية لاستخدام الذكاء الاصطناعي عموماً، في إنتاج نص أدبي، أو مقال صحافي، أنه يُزوَّد بأكبر قدر من النصوص والكتب والمقالات والقصائد، لكي يعلّم نفسه أنماط الكتابة في كل نوع على حدة. ومن ثم، يستطيع الكتابة تلقائياً باستخدام خوارزميات مُعينة لإنشاء محتوى جديد، يُحاكي الأنماط الأدبية المُبرمجة. روايات «الحبكة الملتوية» في مايو/ أيار 2023، ذكرت صحيفة «نيويورك بوست» أن كاتب خيال علمي يُدعى تيم باوتشر، استعمل الذكاء الاصطناعي لكتابة ما يقرب من مئة كتاب في أقل من عام، وأنه استخدم هذه التكنولوجيا الذكية لنشر 97 رواية مُصوّرة صغيرة خلال تسعة أشهر. وقال باوتشر، في مقال نشرته مجلة «نيوزويك»، إنه لجأ إلى روبوتات الدردشة المزودة بالذكاء الآلي، مثل «تشات جي بي تي» لمساعدته فيما سمّاه عملية العصف الذهني وتوليد النصوص، ثم استعمل مُوّلد الصور لتوضيح السرد في الروايات المُصوّرة. أضاف المؤلف: «لقد تمكنت من بث الحياة في القصص والأكوان السردية التي كانت تختمر في ذهني لسنوات، استخدمت الذكاء الاصطناعي حتى لمساعدتي في برمجة تطبيقات مصغرة، من شأنها أن تُزيد من تبسيط وتسريع العملية الإبداعية في المستقبل». وفي آب/أغسطس من العام نفسه، 2023، أثارت الكاتبة الأميركية جين فريدمان ضجة إعلامية، عندما أعلنت أن منصة مشهورة نشرت ستة كتب باسمها، لم تكتب أياً منها، قائلة إنها لم تنشر أي عمل منذ عام 2018، ليتم بعد ذلك اكتشاف أن هذه الكتب مكتوبة بواسطة الكمبيوتر، أي أنها بلا كاتب. اضطرت المنصة لحذف الكتب، وتشديد إجراءات النشر فيما بعد، خاصة بعد الشكاوى التي قدمتها نقابات الكتاب. وفي أيلول/سبتمبر 2023، قررت المنصة عدم نشر أي كتب، إلّا بعد تأكيد الناشرين أنها لا تحوي أي مواد أنتجها الذكاء الاصطناعي. وعلى المستوى العربي، يُعد الباحث والروائي السعودي صالح بن عايض اليامي، أول من قام باستخدام خوارزميات الذكاء في كتابة روايته «المرقّش»، عن سيرة أحد أبرز شعراء الجاهلية، وأحد أبطال حرب البسوس، والتي صدرت في مايو/أيار 2023. أعقب ذلك، نشر 3 روايات لكُتّاب مصريين شبان، وهي: «خيانة في المغرب» للكاتب أحمد لطفي، الصادرة في يونيو/ حزيران 2023، و»حيوات الكائن الأخير» لـ محمد أحمد فؤاد، في فبراير/ شباط 2024، و»ماذا لو أخطأ شامبليون» لـ محمد عبد الله حمودة، مايو/أيار من نفس العام. وهذه الروايات الثلاث لم تُكتب بالكامل - حسبما قال مؤلفوها- بواسطة الخوارزميات، بل جرى إعادة صياغتها من جديد بمعرفة المؤلف. وفي مقدمة روايته، كتب أحمد لطفي عن بعض خصائص وأساليب الكتابة الآلية، موضحاً أن معظم البرامج تكتب بأسلوب غربي واضح، لكون مُبرمجيها الأصليين من دول غربية، وأن كل الجُمل اسميّة تبدأ بالاسم، ويُكتب القائل دائماً بعد جملة الحوار، وهذه أيضاً من مميزات الأسلوب الغربي في الكتابة. أضاف لطفي، أنه قام بـ «تحرير» الرواية بعد انتهائها، وإعادة صياغة بعض الفقرات المُرتبكة فيها، والعمل على الحبكة من خلال التمهيد للأحداث، وملء ثغرات الكتابة، وتقديم الشخصيات التي قد تظهر فجأة في الحكاية، مع إضافة بعض العبارات هنا وهناك. وتعليقاً على ذلك، تقول الكاتبة آية إيهاب، إنه رغم تحرير الرواية، الذي أوضح «لطفي» أنه استلزم منه ثلاث ساعات فقط، فقد كان من الملحوظ الطريقة المباشرة في الكتابة، التي أعلن بها الذكاء الآلي عن نفسه. فهناك عدم عناية باللغة الأدبية، إذ تكاد تختفي المجازات من الرواية، التي تعتمد أسلوباً مباشراً في القص. وهناك أيضاً، حسب الكاتبة: ذلك التسطيح، وتلك الأحادية في رسم الشخصيات على مدار الرواية، فالشخوص إمّا شريرة أو خيّرة. وحتى الشر غير مبرر، وربما لا نبالغ ولو قلنا إنه ساذج، فالشخصية الشريرة الرئيسة في الرواية تصل إلى درجة الشروع في القتل، بدون سبب مفهوم. وربما لا يوجد دافع منطقي لكل هذا إلّا الرغبة في صناعة حبكة ملتوية، على طريقة حبكات الأفلام والمسلسلات الأميركية. وفي محاولة لعلاج تلك الأخطاء الأسلوبية في الكتابة، ناهيك عن كونها كتابات شبه احترافية ولكنها خالية من الروح، ظهرت على الإنترنت مواقع تقدّم لمُرتاديها برامج مجانية تُسميها «أداة الكاتب الخفي»، من شأنها أن تُزيل أثر الذكاء الاصطناعي. يقول الإعلان الترويجي لها: «إن الأداة الخاصة بنا رائعة في إخفاء أن الكمبيوتر ساعدك في كتابتك. إنها ذكية في تبديل كلماتك لتجعلها تبدو وكأنها صادرة عن إنسان. يركز هذا البرنامج على كيفية عمل الكلمات معًا، وما تعنيه، وكيف يستخدمها الناس عادةً. إنه يتأكد من أن مُزيل الذكاء الاصطناعي للكاتب المُتخفي، يمكنه اكتشاف ما إذا كان هناك شيء ما، قد يبدو وكأنه من إنشاء الكمبيوتر»! مستقبل «الأدب الاصطناعي» طرحت الكاتبة هلا الخطيب كريّم، سؤالاً على «تشات جي بي تي»: ما إذا كان يمكن للذكاء الاصطناعي الحلول مكان الكتابة الإبداعية؟ فأجاب بكل تواضع: «لا، لا يمكن له أن يحل محل الكتابة الإبداعية. بينما يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء نص بناء على الأنماط التي تعلّمها، إلّا أنه يفتقر إلى القدرة على فهم المشاعر والتجارب ووجهات النظر البشرية والتعبير عنها حقاً، والتي تعتبر ضرورية للكتابة الإبداعية. تتطلّب الكتابة الإبداعية خيالاً وإبداعاً وخبرات شخصية، لا يمكن أن تأتي إلّا من كاتب بشري». على الناحية الأخرى، يدافع الأكاديمي الأردني د. أحمد زهير رحاحلة، عن هذا النوع من الكتابة التي يُطلق عليها اسم «الأدب الاصطناعي»، قائلاً: إذا سلّمنا بإمكانية تزويد الآلة بالمُدخلات اللازمة لإنتاج صناعة أدبية، فأين الموهبة من هذه المعادلة؟ بالطبع لا يُمكن لأحد - حالياً- الزعم بأن الآلة أو البرمجية تملك موهبة ذاتية، لكننا نعتقد أن صانع الآلة أو البرمجية سيكون هو الموهبة في هذا المقام. ويعني ذلك، بدقة، الخطوة التالية لخطوة المدخلات، وهي «المُعالجة»، فبراعة العالم أو القائم على صناعة الآلة في تزويد آلته بقدرات مُعالجة أدبية فائقة، هو ما سيعوض افتقار الآلة للموهبة، وبالتالي يعطي مُخرجات أعمال أدبية اصطناعية، ذات مواصفات أدبية منطقية. ولا يقتصر الأمر على الأدب فحسب، فقد امتدت الظاهرة إلى الصحافة أيضاً. ويقول الكاتب سليمان المعمري، إن هناك مقالات باتت تُنشر في بعض الصحف مكتوبة بشكل كامل أو جزئي بأدوات الذكاء الاصطناعي، صارت تُنشر في جرائدنا بأسماء كُتّاب يحلو لي أن أسميهم «كَتَبة الذكاء الاصطناعي»، مقالات أقل ما يمكن أن يُقال فيها إنها باردة، ومملة، لا حرارة فيها ولا روح، ولا بصمة شخصية. هؤلاء، وفق الكاتب، ينسِبون إلى أنفسهم نصوصاً ومقالات لم يُعمِلوا فيها فكراً، ولم يبذلوا جهداً، عدا جهد النقر على تطبيق في هواتفهم، وهم «كُتّاب بالغصب» لأنهم يُعيدون إنتاج نصوص ومقالات كُتِبتْ قبلهم دون أن يشيروا إلى مصادرها، متخفّين وراء القدرة السحرية على إعادة كتابة النصوص والأفكار المكتوبة سابقاً بعبارات جديدة. ويلفت الدكتور عبد الرحمن المحسني، في كتابه «أدب الذكاء الاصطناعي: الرؤية والنص»، انتباه الجمهور والمتخصصين إلى جانب مهم من هذا التحول النصيّ، يتمثل في خصوصية استطاع الذكاء الاصطناعي اقتحامها، وهو أن يشارك الإنسان في فعل الكتابة الإبداعية، شعراً وسرداً. يؤكد المحسني: «وقد يتدانى إنتاج الذكاء الاصطناعي فنياً، الآن، عن مستوى نص الذكاء الإنساني، ولكنه مرشح أن يتفوق. ولئن كان خطره على النص محدوداً إن لم يكن مفيداً في جملته، بيد أن خطره على التكوين الإنساني يجعل الباحث يضم رأيه ونداءه إلى كل العقلاء في الكون أن يتداركوا الأمر، وأن يدركوا ما يحيط بوجودهم من خطر، وأن يعملوا على جعل الذكاء الاصطناعي يعمل لصالح الإنسانية ونفعها». *صحافي، وكاتب من مصر.