قراءة في كتاب (فلسفة الاختيار ـ قراءة في المختارات الشعرية الحديثة) للدكتور أحمد بن ماطر اليتيمي..
انتظام منهجيّ وتقصٍّ شموليّ ورؤية واضحة ونتائج خصبة وتوصيات ثريّة.
نقد النقد مصطلح يعني مراجعة القول النقدي والنظر في أهلية المصطلحات النقديّة وصحة استعمالها ومنهج الدراسة وأدواته الإجرائية، والشروع في هذه القراءة يستلزم بالإضافة إلى العدّة المعرفيّة الخاصّة بالموضوع وأسلوب الباحث وأدواته النقدية والتعرّف على الذائقة الجمالية التي هي خصيصة إبداعيّة تتجاوز الجانب المعرفي المجرد، ولا أزعم أنني في هذه القراءة أمارس هذا اللون من النقد فالمجال لا يتسع، لذا حسبي أن أعرّف بالكتاب وبأهمية موضوعه و منجز صاحبه. والكتاب الذي بين أيدينا ذو رؤية نقديّة شموليّة يسعى إلى الكشف عن رؤى المختارين للنصوص الشعريّة التي تمثل المزاج الأدبي السائد فيما يتعلق بالشعر من ناحية، وما يتّصل بذائقة الاختيار الذاتية وفلسفة صاحبه من نحية أخرى، فهي تتجاوز البعد النظري إلى ما هو أعمق متخطّية المناهج المعروفة المنصوص عليها نظريّاً إلى التطبيق العملي الماثل في النصوص المختارة مستنبطة الأسس والمعايير التي ارتكز عليها الاختيار، وطرق العرض والتصنيف ومصادر النصوص وجوانب التأثّر والتأثير بين النصوص المختارة، وإبراز القيمة الفنيّة لها وعصورها الأدبية واتجاهاتها الفنية كما جاء في المقدمة، وأبان المؤلف عن الصعوبات التي اعترضته من حيث اتّساع الموضوع وتعدد بيئاته وعصوره، وهو محقّ في ذلك لأن المساحة الزمانية و المكانية مترامية الأطراف. ألقى الباحث في التمهيد نظرة على تاريخ المختارات مؤكداً الطابع النقدي لها منذ نشأتها، فهي ذات بعد منهجي معتدّة بالجودة الفنيّة أساساً للاختيار دون أي اعتبار آخر مرتبطاً بالنوع (الجنوسة) أو الشهرة، وقد رصد المؤلف ظاهرة مهمة في مسيرة الاختيار تتعلّق بأسسه، إذ تراجع البعد النموذجي لشعريّة النص وتفوّقه جمالياً وموضوعياّ ًإلى تبنّي الأساس المدرسي التعليمي التربوي الذي لا يولي النموذج الجمالي الفنّي بالمعيار النقدي الأهمية التي يستحقها، وارتبط كذلك بالصراع بين القديم والحديث انتصاراً للاتجاه الإحيائي الكلاسيكي أو انحيازاً للرؤية الحداثيّة وهذه ملاحظة مهمة ذات علاقة بتطور الرؤية النقدية للشعر وتبلور مدارسه، كما أنه لاحظ النزعة الاصطفائيّة في اختيار النماذج العليا التي يُعتدّ بها في الشعر العربي في مختلف عصوره فضلاً عن القصائد التي اشتهرت بموضوعاتها الأثيرة عند مختلف الطوائف والشرائح الاجتماعية فتنوعت الأسس باختلاف الدوافع العقدية و الذوقيّة والانحيازات الفئويّة والمتطلبات التربويّة والتعليميّة وغيرها، فكان إلمامه بها يغطّي مساحة شاسعة ذات أهمية. والكتاب يقع في بابين ناقش في الأول منها قضايا ثلاثاً تتعلّق بالمختارات : التكوين الثقافي ومناهج الاختيار وأثر المختار في المؤلف، ولعله يقصد بذلك (ذائقة الناقد) فربط - فيما يتعلق بالثقافة - بين حركة الإحياء و النهضة وما رافقها من وعيٍ بضرورة وضع الأسس لتلك الوثبة الثقافيّة الحضاريّة بالرجوع إلى التراث وتقديم نماذجه رفيعة المستوى، باعتبار أن أيّ نهضة لا بد أن تؤسّس على دعامتين : الأولى العودة إلى الأصول، والثانية احتذاء نماذجه العليا، وقد استند الكاتب في قراءته لثقافة العصر التي كوّنت الذائقة الأدبيّة المختارة إلى تطور الشعر العربي الحديث منذ الإرهاصات الإحيائيّة الأولى لدى الساعاتي وعائشة التيمورية وصولاً إلى البارودي الذي نضج وعيه الإحيائي وأصبح علماً على هذه المدرسة، فكانت مختاراته دستوراً لها و نموذجاً يحتذى، وقد ألمّ المؤلف بالعوامل التى أنضجت هذه الثقافة متتبّعاً الظروف السياسية والمختارات التي صدرت عن أعلام معروفين بذوقهم الإحيائي كما هي الحال عند الهاشمي الذي اهتم بالتصنيف الموضوعي والأغراض الشعرية، وطه حسين ومن شاركه من المؤلفين في كتاب (المنتخب من أدب العرب) الذي تمّت اختياراته على أسس تعليميّة، وقد ذكر المؤلف نماذج من المختارات التي احتكمت لمعايير نقديّة وأخرى موضوعيّة تختلف باختلاف البيئات الثقافيّة والاتجاهات العلميّة، وعمد إلى تناول نماذج مختلفة ذات مرجعية طائفية، مثل مختارات لويس شيخو الذي تعصّب للنصرانية، وأدونيس الذي أقام مختاراته على أساس أدبي نقدي، وأشار إلى أن ثمة مختارات تمّت على أساس مهني عسكري، مثل العماد مصطفى طلاس، واستعرض على هذا النحو العديد من المختارات في مختلف البيئات العربية وكان جريئا واثقاً مستنداً أما فيما يتعلق بمناهج الاختيار فقد استعرض الأهداف والبواعث التي كانت وراء الاختيار محددِّة لمنهجه وأسس الاختيار وطرائق العرض والمصادرو القيمة الفنّيّة، مبيّنا أن الاختيار مسلك ذوقيّ فنّي يبرز النموذج المقصود بشرائط و معايير جماليّة مستشهدا بما يؤيّد وجهة النظر هذه من أقوال أبو هلال العسكري: “اختيار الرجل قطعة من عقله، كما أن شعره قطعة من علمه”، وبما يتّفق معه في هذه المقولة من النّقاد، وأشار إلى من أبان عن مقصده ومنهجه من الذين قامو باصطفاء المختارات، ومن أضمر منهجه ولم يصرّح به، وأشار إلى الأهداف والبواعث التعليميّة والأهداف الإحيائيّة والأهداف الانطباعيّة أو ما أسماها بالبواعث الذوقيّة ومردّها إلى الإعجاب الذاتي، وهي بلا شك أختيارات لها ما يسوّغها، ومنها مختارات القصيبي (قصائد أعجبتني) معبّرا عن رأيه فيها بأنها من أعظم القصائد العربية. ولم يكن المغرب العربي بمنأى عن هذه الحركة الفاعلة من المختارات التي ترى في الأدب العربي مصدراً مهمّاً من مصادر التكوين الثقافي حيث أشار المؤلف إلى واحد من أبرز الأعلام المهتمين بذلك وهو الأديب الليبي خليفة التليسي، وقد تنبه المؤلف إلى دور المؤسسات الثقافية التي رمت من وراء المختارات من الأدب التونسي التعريف بالإبداع المحلي التونسي ؛ وقد أشار إلى مسألة مهمة تتعلق باتفاوت في أسس الاختيار باختلاف البيئات والأدواق. وفي هذا الاطار يعالج المؤلف موضوع التحكيم في سوق عكاظ، ويعدّه من مناهج الاختيار، ويربطه بموضوع التلقي بصفته منهجا نقديا مشيراً إلى مقولة نقدية مهمة تؤكد الوعي بهذا المنحى “ لا يكون الشاعر متقدما حتى يكون باختيار الشعر أحذق منه بعمله” وفي اعتقادي أن هذا المعيار النقدي يرتبط ارتباطا مباشرا بنظريّة الاستقبال، وفي ذلك التفاتة نابهة ذات قيمة تعبر عن رؤية نقديّة نابهة، واستند في ذلك إلى ما جاء على لسان الفرزدق الشاعر الأموي الذي عُرف عنه عنايته بتنقيح شعره فهو – كما وُصف – ينحت من صخر، تؤيده مقولات العديد من النقاد المشارقة والمغاربة كما أشار المؤلف. وثمة معايير تستند إلى الذوق النقديّ والأسس الجمالية بعيداً عن الانطباع استناداً إلى ما ذهب إليه ابن سنان الخفاجي، وثمة من حدّد هذه المعنى، وقد سبق أن أشرت إليه، وذكره البعض في مقدمة مختاراته، ومنهم من أضمرها و لم يصرّح بها، وقد تعهد الباحث بالكشف عنها، وهي من الإنجازات المهمة لهذه الدراسة، وقد أومأ إليها طارحا مجموعة من الأسئلة من شأن الإجابات عليها تغطية هذا الجانب المهم من البحث، وهي تتصل بالبواعث، وقد اعتبر هذه البواعث سبيلاً من سبل الكشف عن منهج الاختيار، وقد سبق أن أشرت إليها، ومنها الهدف التعليمي، وله منهجه الخاص المتصل بالجانب اللغوي والقيمي ومستوى التلقّي، والهدف الإحيائي، وهو أقرب إلى النقد الأدبي، وبواعث أخرى دينيّة ومذهبيّة ووطنيّة ووجدانيّة وأخلاقيّة وسياسيّة، وقد مثّل لكلٍّ منها بما يتفق معها. وتناول أسس الاختيار فأشار إلى الأساس الفنّي مشيراً إلى مختارات البارودي بوصفها نموذجاً للمعيار الفنّي الجمالي، وكذلك (الشوارد) لابن خميس، ومختارات خليفة التليسي، وبدا أن السبيل إلى تحقيق هذا الهدف في البحث عن مكامن الإبداع وتطوّره عبر العصور الكشف عن التحوّلات الكبرى في مختارات (ديوان الشعر العربي) لأدونيس مطلقا مقولته: “الطاقة الإبداعية الأولى عند العرب هي الطاقة الشعريّة”، و(الجمهرة) للجوهري، وشغل موضوع الوحدة الفنيّة بعض الذين عكفوا على الاختيار، مثل إبراهيم العريض، واعتمد البعض اصطفاء البيت الواحد على أسس فنيّة، مثل مختارات التليسي (قصيدة البيت الواحد) ولعل من اعتمدوا على الذوق لم يكونوا بعيدين عن هذا الآساس الفني، وكذلك الذين اعتمدوا الأساس الموضوعي، فلم يكن البعد الفني في كل الأحوال مستبعداً من المعايير السالفة الذكر حتى من اعتمدوا الأساس الزماني والمكاني، وقد تداخل هذا الأساس مع المعايير الأخرى كما أشار المؤلف. وفيما يتعلق بطرق العرض فقد أشار الكاتب إلى بناء خطة الكتب على الأغراض و أسماء الشعراء والقافية وعدد الأبيات والمدارس الشعرية، وأشار إلى تحليلات وتعليقات أصحاب المختارات الشعرية، وتوقف عند القيمة الفنّية للمختارات عبر رؤية نقدية واعية بأهمية ذلك بذوق نقدي مرهف ثريّ، وبيّن المؤلف أثر هذه المختارات في أصحابها فنّياً وفكريّا من منظور سياسيٍّ، كما في مختارات جعفر العلاق (قصائد مختارة من شعراء الطليعة العربية) وسليمان العيسى ومصطفى طلاس، ومن وجهة أخلاقيّة كما في مختارات الشيخ عبد الفتاح أبو غدة. وأما ماجاء في الباب الثاني الذي خصّصه لمقاربة النص المختار من حيث العصوروالأغراض والاتجاهات الفنية فيستلزم قراءة مسنقلة، ومن الضروري الوقوف عند النتائج التي أسفرت عنها هذه الدراسة، وهي نتائج مهمة، وبدا واضحاً أن الكاتب ركّز على الدوافع التي استغرقت حيزاً واسعاً من النتائج، ما يعكس وعياً عميقاً بأهميتها، وفي مقدمتها الهدف التعليمي و إحياء التراث والميل الذاتي، ولعل الأسس التي أشار إليها ذات علاقة وثيقة بالدوافع وهي أسس ذوقيّة وفنيّة ونوعيّة و موضوعيّة وزمانيّة و مكانيّة، وارتبط ذلك أيضاً بطرق العرض الأغراض و الأقدميّة والعصور الأدبيّة والمدارس الشعريّة، ولعل أكثرها ارتباطاً بالجانب النقدي التحليل والتعليق الذي صاحب المختارات، وقد توقف عندها الباحث ، وكذلك ما يتعلق بالتحقيق وهو جانب مهم يتعلق بالتوثيق، وهو علم له أصوله وقواعده، فهو السبيل إلى التأكّد من نسبة النصوص لأصحابها الحقيقيين. لقد أسفرت هذه الدراسة عن ثماني عشرة نتيجة في انتظام ينسجم مع خطة البحث وأسئلته، وبنيت على أسس منهجية كميّة و كيفية فثمة جداول إحصائية ونسب مئوية واستنتاجات منطقية، وتوصيات ذات قيمة علمية اتسمت برؤية شمولية تفتّقت عن عناوين بحثية لافتة في جوانب متعددة، والمجال لايتسع للمزيد.