من “السوربون” الى “سمرقند”:

حكاية أبٍ فتح لنا أبواب العالم.

حين طُلِب مني أن أعطي رأياً عن والدي الدكتور معجب سعيد الزهراني في هذا المقام لم أُصَبْ بحيرة، لعل من أدلى برأي أو مقال عنه، قاموا به في الغالب بجودة وجدارة عالية ولا يزالون. وهؤلاء المثمنون لروّاد الفكر والبحث والإبداع في المملكة العربية السعودية قاموا بالإشادة بمن ساهم منذ عشرات السنين حتى الآن في خلخلة النمطيّات والأفكار الدخيلة وحرصوا على إعلاء الوعي العام والمرونة الفكرية والإثراء الثقافي. ولا يخفى على الجميع أن تفعيل أفكار ومشاريع رؤية 2030 لسمو ولي العهد الأميرمحمد بن سلمان تحت قيادة الملك سلمان بن عبد العزيز حفظهما الله ، شكل لوالدي ولكثير من مثقفي البلد من الجيل السابق فرحاً وفخراً وحقق حلمهم لهذا الوطن الحبيب ومجتمعه. وفي هذا المقام سأدلي بشهادتي عن والدي من زاوية أخرى. زاوية حميمية امتنانية لما يشكّل لي ولأسرتنا الصغيرة وهو جانب لا يعرفه الجمهور عن الدكتور معجب الإنسان كأب وزوج ورب اسرة. سأعذر من يظن أن شهادة البنت عن أبيها فرويدية ومن يظن أن تعلقي بوالدي مجرد انعكاس لصورة تبالغت أبعادها حباً، أو أنها مجرد فكرة ذاتية بعيدة عن الموضوعية. سأعذر ذلك حتماً لأنه لا يخلو من الصحة، لكن الأصح أيضاً أنها حقيقة عشتها ولا أزال وليكن الرأي الأخير في تقييم هذه الشهادة من نصيب قارئها مهما اختلفت نُظُم استقباله. سأبدأ من نعومة أظافري حينما كان والدي يحضر رسالة الدكتوراة بجامعة السوربون في باريس. بدأ والدي بفتح مدارك والدتي، تلك المرأة الجميلة جداً في كل شيء لا سيّما في نقائها الريفي، فلم يقم بحصرها كمرافقة أو ربة منزل وأم. حرص على دفعها لتعلم اللغة الفرنسية ودعمها في كل شيء إلى أن حصلت على شهادة عالية في التربية والطفولة. فتح أبي مداركها ومداركنا أنا وأختي حيث إنه يعرف أن دهشة والدتي بهذا العالم الجديد لا تقل عن اندهاش الطفل الذي يكتشف ويغامر لينمو وينضج. فتح أبي لأمنا ولنا بحور الثقافة بتنوعها فهو من ذهب بنا إلى دار الأوبرا لحضور كارمٍن لـ “جورج بيزيه” والناي السحري لـ “موزارت” ولرؤية أهم عروض الباليه ككسّارة البندق و بحيرة البجع لـ” تشايكوفسكي” وأخذنا لحفلة جارة القمر فيروز في الثمانينات ولا زلت أدين له بافتتاني بالموسيقار والمسرحي زياد الرحباني الذي اشتهر بالنقد السياسي والاجتماعي الساخر والعبثي في أغانيه ومسرحياته. كما كان أبي متذوقاً رفيعاً للفن التشكيلي وأدخل هذا الحب والاهتمام لنا جميعاً فهو يزور المتاحف والمعارض الفنية أينما كان، ويقتني ما اتسع له اقتناؤه، ولديه وَلَهٌ بالحركة الانطباعية في الفن وبعض اللوحات الواقعية لا سيّما لوحة لاقطات السنابل لـ “فرانسوا مييّه” ولم نسكن أي بيت دون تزيينه بما اقتناه فناً. علّمنا أبي الوقوف مع العدالة والقيم الكبرى فكان يحملني على كتفيه في معظم مظاهرات باريس لنصرة القضية الفلسطينية وشعبها وأيضاً لتحرير نيلسون مانديللا وغيرها من القضايا الهامة العادلة آنذاك. أبي حنونٌ ودودٌ، يعلّم دون توجيه مباشر ويعطينا دروس الحياة دون تلقين أو ثُقل ويسعى كمثالٍ لنا دون ضغوط. يتمتع أبي بثقة نفس عالية وبنا كذلك ولا يسيء الظن ولم يلبس يوماً ثوب الرقيب علينا. هو شخص شغوف بالعمل ومثابر كبير على نظام حياة متوازن بين الفكر والعقل وصحة البدن. وبهذه الطريقة الهادئة والنموذج الرقيق أشعل فينا حب القراءة والفنون فأختي نرجس تكتب (حتى وإن لم تنشر بعد)، ولديها موهبة عالية في التصوير وأنا فنانة تشكيلية جانب تخصصاتي الأخرى وأخي توفيق مؤلف موسيقى إلكترونية جانب عمله. ومنذ نعومة أظافرنا وأبي يقرأ، فقرأنا بفضله. قرأت أختي في سن التاسعة فقط كثيراً مجلدات “أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب” للعلّامة القدير “عبد الكريم الجهيمان”. وبعد عودتنا إلى المملكة العربية السعودية في سنة 1989م أصبح أبي أستاذاً في جامعة الملك سعود وعملت بشق الأنفس على إتقان لغتنا العربية التي حرص والديّ معاً على تأسيسي فيها بتسجيلي في مدرسة عراقية رائدة بباريس آنذاك بنظام المنازل. وحينما تمكنت من لغة الضاد، دخلتُ مكتبة والدي الغنية بالرياض في الثانية عشر من عمري. كانت هذه المكتبة الثرية التي حرص والدي على جلبها من فرنسا تغريني بزخمها. وقعت على رواية سمرقند لأمين معلوف وفُتنتُ بالمقتطف في ظهر الرواية فقرأتها بنهم ووله ولم أعد أتوقف عن استعارة الكتب من هذه المكتبة من فلسفة وفنون وتاريخ ونقد وأدب عالمي وعربي وروحانيات إسلامية وغيرها. بفضله قرأنا غسان كنفاني ومحمود درويش وخليل جبران وإبراهيم الكوني وعبدالرحمن منيف وغازي القصيبي ونجيب محفوظ ونزار قباني ولكن أيضاً بودلير وتولستوي وغارسيا ماركيز ونيرودا وبالطبع رواد الفسلفة الإغريقية والإسلامية وغيرهم الكثيرين. يمتاز أبي أيضاً بشجاعة كبيرة واتساق كامل بين ما يقول ويكتب ويفعل، ففي زمن الثمانينات إلى بداية الألفين ميلادية كان بعض مثقفي البلد يكتبون ما لا يطبقون إطلاقا على أنفسهم وزوجاتهم وأبنائهم. أبي وفيٌ لقيمه العقلية والروحية والجسدية، وعلمنا ألا نخوض الحروب والمعارك الصغيرة ونستغني عنها بما هو أعلى وأجدى. وعلى ذلك كبرنا بأجنحة تتجاوز الأفق المتعارف عليه آنذاك. أبي أبٌ بمعنى ما تحمله الكلمة من المسؤولية والاحتواء والمحبة وترك الأثر، وأصبح بعد أن كبرنا صديقاً مسانداً ورفيق درب حميمٍ خفيف يشعُّ بإيجابية نادرة مع عمقٍ وسلام كبير في التعاطي معنا ومع الحياة.