تقرير عن موت رجل مجهول.

- هذا النص مقتبس – مع شيء من التصرف - من تقرير إداري اُحيل لنظر المجلس البلدي في بلدة نائية، وكان قد قرر حفظه آنذاك. “الرجل المجهول مات ... نحن بحاجة إلى عونك.” هكذا استهل سعادة مدير دار الرعاية الاجتماعية مكالمته الهاتفية معي. كان قد أخطرني من قبل بأنهم استقبلوا رجلاً شيخاً لا يعرفون له هوية ولا عنوانًا، وادخلوه الدار باسم الرجل المجهول. ويبدو أنهم فشلوا في الوصول إلى أي معلومات عنه، وهذا ما دعا سعادته إلى مهاتفتي، لعلني أساعدهم في العثور على شيء يقودهم إلى أهله. لا أعلم ما الذي سيقدمه موظف في المجلس البلدي مثلي لحل مسألة كهذه، أو فك هذا اللغز العويص. فنحن لا نحتفظ بسجلات إلكترونية تمكّننا من الوصول إلى الهوية عبر البصمة أو نظام حاسوبي يحفظ أسماء السكان وسجلاتهم. نحن نعيش في عصر الملفات الورقية، ولا سبيل للوصول لهوية الأشخاص إلا عبر الإعلان في جريدة البلدة أو تعليق إعلانات في شوارعها. ذهبت إلى الدار لا لأجد حلاً لهذا اللغز، بل لأُظهر للمدير أني موظف مجتهد ومتفان يستجيب من وقته لمشاغل أهل البلدة. استقبلني المدير وتحدث عن كيفية وصول الرجل المجهول إليهم، إذ جاءت به دورية شرطة بعدما عثرت عليه هائمًا في الطرقات، وليس في جعبته إلا حقيبة صغيرة. وهذه الحقيبة، كما قال، لم تكن تحوي شيئًا سوى صور كثيرة. تنهد المدير، ودفع كرسيه للخلف في حركة بهلوانية مع زفرة سخط، وقال: – لا أستطيع أن أفيدك بشيء غير الذي قلته لك. إذا أردت المزيد، عليك بلقاء الممرضة ربيعة، فهي التي كانت تلازمه طيلة إقامته في الدار وحتى وفاته. ثم رفع سماعة الهاتف وقال: “سأطلبها الآن!” أما أنا فتجرعت ما تبقى من قهوتي المرة وأخذت استلذ ما علق بشفتي منها. جاءت ربيعة. امرأة عَوان أو تكاد تكون، ودعت الشباب ولم تجتز عتبة الكهولة بعد، لطيفة القسمات، رزينة النظرات، محتشمة الزي، رصينة الإيماءات، كأنها امرأة آلية. وقفت أمامنا، فقال لها المدير: – اذهبي معه إلى مكتبك، وأخبريه بكل ما لديك عن الرجل المجهول! خرجنا كأننا سجينان من زنزانة مكتومة تدعى مكتب المدير. تبعتها حتى ولجنا مكتبها، فأجلستني على كرسي أمام منضدتها وسألتني: – ماذا تريد أن تعرف؟ – كما تعلمين، جئت لأساعدكم في التعرف على الرجل المجهول، أو لعلنا نصل إلى أهله. وأريد منك، إذا تكرّمت، أن تخبريني بما لديك عنه. – أتذكر أول يوم وصل فيه إلى هنا، كان منهكًا وحزينًا، يطوي يديه على صدره وبينهما حقيبة صغيرة. في البداية لم يكن يتكلم. كان يمتثل للأوامر بلا نقاش أو جدال. يأكل ويشرب دون مشاكل. وكنت، كلما تفقدته، أراه جالسًا متكئًا على ظهر السرير، رجلاه منفرجتان، وبينهما الحقيبة الصغيرة. كان يخرج منها بضع صور، يطالعها لوقت طويل، ثم يصفها أمامه كأنها رقعة شطرنج. وفي نهاية اليوم، عند تفقدي المسائي، أجده قد مزق تلك الصور وألقاها في سلة المهملات بجانب سريره. وحين رمقت تلك الصور كانت صور لأناس؛ رجال ونساء وأطفال. ولم أتجاسر أن اسأله عن ذلك. – أعتذر عن المقاطعة… ألم تجرِ معه أي حديث؟  - بلى، مرات معدودات.  – ألم يقل لكِ شيئًا عن هويته أو أهله؟  – الحق أنه كان يتجنب أي حديث عن شؤونه الخاصة، وإذا سئل عن ذلك، كان يهز رأسه بحزن، ولقد كان تقديرنا الطبي أنه يعاني خرفًا أو شبه خرف.  – وما الذي كان يقوله لكِ؟ – كان رجلًا عجيبًا. أظنه كان مثقفًا، أو كاتبًا، أو على الأقل تلقّى تعليمًا معتبرًا. فحديثه كان يأتي على هيئة نصائح، أو عبارات يختلط فيها التلميح والتصريح. – مثل ماذا؟ – على سبيل المثال، قال لي مرة محذرًا: “إياكِ والمشاعر العقيمة! إنها تستنزف قوتك وتشوه روحك. فالحسد عقيم، والغل عقيم، والكبرياء عقيم، والخيلاء عقيم، والبخل عقيم، والاكتناز عقيم، والغضب عقيم، والغرور عقيم”. ثم صمت قليلًا، ونظر في عينيّ بحزن شديد، وتابع: “وهناك مشاعر لا يُدرك عُقمها إلا بعد فوات الأوان، فبعض الحب، يا ابنتي، عقيم! “ وفي إحدى المرات، قال لي: “الناس مخلوقات خطرة. كوني منهم كالغزال الوجل. لا تقتربي منهم كثيرًا! فالاقتراب منهم عقيم… ووخيم. هم أهل غنيمة ومنفعة، وسيظل هذا هو مناط حكمهم عليك. وأشدهم خطراً فئة تمالق وتماذق، يبترون يدك ويسخطون إن لم تصافحيهم. لا تسيئي فهمي! فأنا لا أعني كل الناس. هناك قلّة قليلة، والعثور عليهم صعب. لكن لو كنت محظوظة بما يكفي، لعلك تصادفين أحدهم… أولئك هم الذين يجعلون العيش محتملاً. إنهم أهل الرحمة، والاحسان والأدب، المثخنون جراحاً والثابتون عزماً أمام قوى الطبيعة الشريرة.” وآخر ما أذكره من أقواله: “لا تستثمري في الناس. إنها تجارة بائرة. لا تظني أنهم سيردّون لكِ الجميل. افعلي الخير دون انتظار لأي رد أو عائد.” وهذا كل ما أستطيع تذكره. – حسنًا… هل تريدين أن تقولي شيئًا آخر؟ أسندت ظهرها على الكرسي ثم ألقت بيديها على المنضدة بقوة وقالت: – سؤالك هذا جنائي النبرة، ولا يصح من مسؤول بلدي، لكن أعلم ما تقصد… لقد اكتشفتُ أنه مزق كل الصور التي في الحقيبة، وبقيت صورة واحدة فقط، كان يضعها في جيبه العلوي، ومات وهي مدسوسة هناك بحذاء قلبه. كنا نراه من وقت لآخر يخرجها من جيبه، يتفرسها، ثم يعيدها إلى مكانها. – ولمن تلك الصورة؟ – لم أستطع رؤيتها وخجلت أن اسأله. لعلك تسأل العاملين في ثلاجة الموتى، لم أكن في الدار….. حين توفي. نهضت وشكرت لها تعاونها. عند مصافحتي إياها، اختلج وجهها وتورمت عيناها، ثم نكست رأسها، ورشحت دمعةُ على يدي. بمزاج متوعك توجهت إلى مكتب المدير. جَمَد حين رآني، فأخبرته بما قالته الممرضة ربيعة عن الصورة، وأنها قد تكون مفتاحًا لحل اللغز. ما إن أنهيت كلامي حتى انفجر ضاحكًا، وهو يلوّح بيديه في الهواء. وبعد أن انتهت نوبة ضحكه الماجنة، فتح دُرجه، وأخرج صورة، ودون أي اكتراث دفع بها على سطح المنضدة حتى استقرت أمامي. خرجت من الدار والصورة بيدي. قلبتها مراراً، حدقت فيها، وناجيت نفسي، كنت في حيرة من أمري، فكرت ثم قررت أن اقصد مكتب جريدة البلدة. ************ في اليوم التالي: نُشر إعلان في الجريدة مع تلك الصورة، تحت عنوان: “من يعرف هذه القطة؟” ولقد علمت لاحقاً أنه وردت للجريدة ثلاث مكالمات خلال ذلك اليوم، جميعهم زعموا أن القطة لهم.