الصمت بين إيران وإسرائيل ..

خدعة أم استراحة محارب؟

رغم إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، فإن المشهد الإقليمي لا يوحي بأن الهدوء الحالي يمثل نهاية للصراع، بقدر ما يعكس هدنة مؤقتة تمليها الضرورات السياسية والاستراتيجية لكلا الطرفين. فالقتال الذي انفجر مؤخرًا في مواجهة جوية مباشرة امتدت لأكثر من عشرة أيام، لم يكن سوى امتداد لحرب ظل طويلة خاضها الطرفان عبر وسطاء ومناطق نفوذ متداخلة. لكن إعلان التهدئة لا يوازي بالضرورة بداية مسار سياسي واضح، إذ لا تزال بنود الاتفاق مبهمة، ولم يُعرف ما إذا كان سيُستكمل باستئناف المفاوضات النووية المتعثرة بين واشنطن وطهران. في هذه المرحلة، يبدو أن كل طرف يسعى لتثبيت مكاسب آنية دون الانجرار إلى مواجهة شاملة. فواشنطن، المرهقة من أعباء تدخلاتها العسكرية السابقة في الشرق الأوسط، ليست مستعدة للتورط في نزاع جديد. أما إيران، التي تواجه ضغوطاً داخلية خانقة وتراجعاً في قدراتها العسكرية، فتُفضّل شراء الوقت عبر تسويات مؤقتة. ومن جهته، وجد ترامب نفسه في معادلة داخلية دقيقة، بين تيارات تنادي بالانعزال وتلك التي تطالب بدعم غير مشروط لإسرائيل. من جهة تل أبيب، فإن الاستمرار في التصعيد بدا مكلفاً وغير مضمون النتائج، بعد تحقيق أهداف عسكرية نوعية مثل استنزاف البنية الصاروخية الإيرانية واستهداف البنية القيادية للحرس الثوري. كما أن الحفاظ على التنسيق الوثيق مع الإدارة الأمريكية اعتُبر أولوية، خاصة في ظل تعقيدات الداخل الأميركي. في المقابل، تسعى إيران إلى تفادي مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وتريد كبح الضربات الإسرائيلية المتكررة على منشآتها الحيوية. استمرار التوتر قد يدفع البلاد نحو اضطرابات داخلية واسعة، ما يجعل أي تصعيد إضافي بمثابة مقامرة وجودية للنظام. أما على الصعيد الإقليمي، فإن وقف إطلاق النار قد يهدئ مخاوف الدول المجاورة، التي تخشى من سباق التسلح النووي بقدر ما تخشى من اندلاع حرب مدمرة على أراضيها أو بالقرب منها. ورغم أن بعض القوى ترحب بأي تهدئة، فإن الشكوك تبقى قائمة، خصوصاً من جانب طهران، التي لا ترى في التهدئة ضماناً بعد سوابق عديدة أُجهضت فيها التفاهمات بفعل الهجمات الإسرائيلية، حتى أثناء فترات التفاوض. منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023، بدا أن حكومة نتنياهو تحوّلت إلى مقاربة أمنية أكثر صرامة، ترتكز على فرض الهيمنة الإقليمية وردع الخصوم، لا على تسوية الخلافات. هذا النهج يجعل أي اتفاق طويل الأمد مع إيران خيارًا غير مرجّح، بل أقرب إلى الوهم. ورغم الضربات الموجعة التي تلقتها منشآت إيران النووية والعسكرية، فإن النظام لم ينهَر، بل يُظهر مرونة لافتة في امتصاص الصدمات والبحث عن فرص لاستعادة قدراته. التاريخ الإيراني حافل بمحطات مشابهة، أظهرت قدرة طهران على المناورة وإعادة التموضع دون التخلي عن ثوابتها الأيديولوجية. مثّلت الجولة الأخيرة اختبارًا نادرًا لحدود القوة والردع لدى الطرفين. إسرائيل تعتبر أنها أحرزت تفوقاً جوياً شبه مطلق بعد تحييد الدفاعات الإيرانية، فيما ردت طهران بمزيج من الصواريخ والطائرات المسيّرة، نجح بعضها في تجاوز الدرع الدفاعي الإسرائيلي، مستهدفة مراكز حضرية كبرى، في رسالة مزدوجة مضمونها الردع ورفع كلفة المواجهة. غير أن الرد الإيراني، رغم زخمه، لم يوقف التصعيد الإسرائيلي، بل دفعه نحو مراحل جديدة. العمليات التي وصفتها تل أبيب بـ”الوقائية” تحمل في طياتها أهدافاً أبعد من مجرد تعطيل البرنامج النووي الإيراني، وربما تصل إلى محاولة تقويض تماسك النظام ذاته. منذ الحرب الإيرانية-العراقية، تعلمت طهران فن التراجع التكتيكي لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى. فالمرونة السياسية ليست تنازلاً دائماً، بل أداة لإعادة التموضع. النظام الإيراني، حتى عندما يظهر استعداده للحوار أو التفاوض، لا يتخلى عن جوهر خطابه القائم على مقاومة النفوذ الغربي، وأي تراجع كبير يُعتبر بمثابة هزيمة لا يُمكن التسليم بها داخليًا. الحديث عن إغلاق مضيق هرمز ظل دائمًا جزءاً من أدوات الضغط السياسي، لكنه عملياً يفتقر للجدوى. فإغلاق الممر البحري الحيوي سيضر بإيران أكثر مما يضر بخصومها، وسيُعرضها لعقوبات دولية صارمة ويهدد علاقتها مع شركائها التجاريين، خصوصاً الصين. كما أن الجغرافيا لا تمنح طهران سيطرة كاملة على الممر، الذي يقع جزء كبير منه ضمن المياه العمانية. لقد نجحت إسرائيل، في الحفاظ على تفوقها الجوي، وراهنت على اجبار إيران على تحويل ترسانتها الصاروخية من الهجوم إلى الدفاع. في المقابل، تبنت طهران معادلة التصعيد المضاد، في رهان على إحداث اهتزازات داخلية في إسرائيل، سواء سياسياً أو اقتصادياً، عبر ضربات دقيقة ومحدودة ولكنها مؤثرة. في النهاية، لا يعكس وقف إطلاق النار تحوّلاً نوعياً نحو حل سياسي شامل، بقدر ما يؤكد حالة من الردع المتبادل، في إطار توازن غير مستقر، قابل للانهيار عند أول تغير في موازين القوة أو المزاج السياسي الدولي. * باحث ومستشار سياسي