(المعلم الذي لم يقل كل شيء).

من لا يملك حرية الحلم لا يملك حرية الحياة، والحياة لا يمكن أن تتسع للذين لم يفسحوا في صدورهم مساحات للأحلام للركض وللسباحة بعيداً عن الساحل. طرحت الكثير من الأفلام فكرة التغيير والقفز عن المألوف من خلال معلمين استثنائيين، معلم يستطيع أن يمنح الأطفال أجنحة ليطيروا ويحلموا، وأن يفكك قيود عقولهم الصغيرة فتتحرر من الواقع لتحلق دون تردد في فضاء هذا العالم و منها مثلاً فيلم Dead Poets Society وفيلم Good Will Hunting وفيلم Detachment لأدريان برودي والفيلم الأسباني El maestro que prometió el mar) ويعني المعلم الذي قطع وعداً بالذهاب للبحر، وهو فيلم دراما تاريخية إسبانية تدور أحداثه في إطار زمني مزدوج بين عامي 1935 و2010 مأخوذ عن رواية تحمل ذات الاسم، وتدور أحداث الفيلم حول معلم يصل إلى قرية معزولة في بورغوس، فيفتح المدرسة القديمة ويبدأ باستقبال الطلاب وتعليمهم وفق أساليب تعليمية تنمي الحس الإبداعي لديهم من خلال الرسم والموسيقى والرقص وكتابة القصص؛ لتتفتق مدارك الأطفال الصغار وتحلم بعالم أبعد من القرية الصغيرة وأكبر منها، في زمن يكتظ بالصراعات السياسية والأحزاب المختلفة، بشعارات تنادي بالحرية في ظاهرها ولا شيء في باطنها سوى الموت، يبدأ المعلم معاركه الأولى مع رجل الدين الذي لم يكن ليعجبه إزالة الصليب من جدار الصف في المدرسة، ولم يكن ليقتنع بوجود معلم ملحد يلقن الأطفال طرق القراءة والكتابة، بل ويمنيهم برؤية البحر ويعدهم بذلك، قصة حقيقية و مؤثرة عن التعليم والحرية والأمل وسط صراع قاسٍ، وأطفال هم البذور التي تستحق أن تمنح الرعاية لتنمو بشكل حر وطبيعي، والنهاية بقي الوعد قيد الحلم واغتالت السلطة جسد المعلم وبقيت روحه تتنفس في قلوب الأطفال وعقولهم إلى الأبد. إنه فيلم عن القوة الثورية للأمل، وكيف يمكن لإنسان أعزل بلا سلطة ولا سلاح أن يُرعب نظامًا استبدادياً، لأنه وببساطة لم يرتكب شيء أكبر من أنه علّم الأطفال أن الحلم هو الحياة، خاصة في زمنٍ عاصفٍ ومشحون بالاضطرابات السياسية والجمود الفكري، ليشكل الفيلم قصيدة سينمائية تحيي ذكرى المعلم “أنطوني بنانييس” والذي لم يكن ينوي فقط تعليم الأطفال الحروف بل أراد أن يساعد في تشكيل أدمغتهم لتكون أكثر سعة، بإيمانه أن التعليم ليس طاعة بل حرية؛ ليس نقلًا للمعرفة بل زرعًا للخيال، وعندما وعد تلاميذه الفقراء بأن يأخذهم ذات يوم لرؤية البحر، لم يكن يبيعهم وهماً بل كان يمنحهم الأفق الذي حُرموا منه، في توازٍ زمني بديع تتقاطع قصته مع مسار شخصية معاصرة تبحث عن جدها المفقود في زمن الحرب الأهلية، فتبحث في مقابر جماعية مختلفة لتقدم للجد سعادة صغيرة قبل أن يغادر الحياة، لا يهدف الفيلم إلى تأريخ الحرب بل إلى مصالحة الذات مع ماضيها، وكأن الفيلم يحمل دعوة للثورة، ثورة ناعمة، تبدأ من الصف الأول في مدرسة صغيرة وتزرع الأمل حتى لو لم يُزهر وهو عملٌ بطولي في وجه الظلم فالتعليم الذي لا يفتح النوافذ هو شكل آخر من أشكال الحبس. ومع أن صناع الفيلم لديهم قصة إنسانية لها بعد تاريخي مؤثرً، لكنه لا يخلو من الكثير من الثغرات على مستوى الإخراج والسيناريو وهو ما شعرتِ به؛ فهو يفتقر للجرأة البصرية، فالمخرجة قدمت عملًا محترمًا من حيث احترام الذاكرة لكن اختياراتها البصرية محافظة جدًا، مقارنة بعظمة المادة الأصلية، فالبحر مثلًا والذي يمثل الرمز المركزي في الفيلم، لم يُوظف إلا في لحظات قليلة جدًا وبأسلوب تقليدي، هناك افتقار واضح للابتكار البصري، خاصة في المشاهد الريفية أو الفصل الدراسي. كاميرا ثابتة و زوايا مألوفة ومشاهد تمر أحيانًا دون أثر بصري قوي، مشاهد القبور الجماعية، والتي كان من الممكن أن تكون لحظات فلسفية وسينمائية عميقة، جاءت عاطفية سطحية أحيانًا، بدلًا من أن تفتح جرحًا وجوديًا فعليًا، كما أنه سيناريو بلا نبض سردي منتظم رغم أن كاتب السيناريو “ألبرت فال” اقتبس القصة من كتاب غني جداً إلا أن السيناريو يُعاني من عدة مشكلات، والسرد المزدوج (1935 / 2010) غير متوازن، فالخط الزمني المعاصر أضعف كثيرًا، وأحيانًا يبدو وكأنه أُقحم لربط الحاضر بالماضي دون أن يكون له عمق درامي فعلي، الحوارات أحيانًا مباشرة ومُبالغ في بساطتها و نادرًا ما تجد حوارًا يحمل قوة رمزية أو طبقة فلسفية خلف الكلمات، وأعود لأقول أن المادة كانت تسمح بذلك، كما جاءت النهاية متوقعة جدًا، تخلو من مفاجأة جمالية أو لحظة صمت سينمائي تهزّ المتفرج، هل الفيلم مهم؟ نعم، من حيث الذاكرة الجماعية الإسبانية، من حيث عدالة المعلم الذي لم يكمل وعده، لكنه كعمل سينمائي أقرب إلى الوثائقي المؤدب منه إلى العمل الفني العميق، كان يمكن لهذا الفيلم أن يكون بحراً من الجمال، لكنه اختار أن يكون جدولاً صغيرًا عابرًا، قصة المعلم الذي علّم الأطفال أن يحلموا لم تفشل لكن السينما التي روتها لم تحلم كفاية. نحن لا ننتقد نية الفيلم، بل نأسف على قدرٍ لم يتحقق، في عملٍ كان يمكن أن يكون قصيدة خالدة. وما بين أدريان برودي في Detachment والمعلّم في The Teacher Who Promised the Sea الكثير من المتشابهات، في الشكل الخارجي وطريقة اللبس كما أن كلاهما صامت، محطم، مثقف، يجعلاننا نؤمن أن الإنسان قد يُكسَر، لكنه لا يتخلى عن مهمته. المشهد الذي يقف فيه المعلم أنطوني داخل الفصل ويعد الأطفال بأنهم سيرون البحر ذات يوم البحر هنا ليس فقط جغرافيا بل هو وعدٌ بالحرية بالحلم، بكسر حدود القرية والواقع، فهو يمنحهم الأفُقً الذي يتجاوز السقف والطين فالبحر ليس مكانًا بل حلمًا مؤجلًا تمامًا كالثورة والحرية والكرامة. الفيلم من بطولة/ “إنريك أوكير” في دور أنتوني بينيجيس ،”لايا كوستا” في دور أريادنا، “لويزا غافاسا” في دور شارو، “جايل أباريسيو” في دور كارلوس، السيناريو من تأليف “ألبرت فال”وهو مقتبس من كتاب فرانشيسك إسكريبانو، ومن إخراج “باتريشيا فونت” .