القصيدة غير المنطقية: من تفكيك المعنى إلى بناء الأثر .

إن كل منظومة معرفية حين تُستنزف لغتها تظهر على حدودها ارتجاجات وتنبثق أنساق فرعية تحاول أن تعيد ترتيب العلاقة بين الذات والمعنى اللغوي، وهكذا يمكن النظر إلى (القصيدة غير المنطقية) بوصفها طفرة لغوية وفكرية، لا تستهدف العبث، بل تفكك منطق السيطرة السردية والعقلانية المتراكمة على النص الشعري منذ قرون. ليست القصيدة غير المنطقية نفيًا للقصيدة ولا انفلاتًا محضًا من قوانين اللغة، بل هي إعادة اكتشاف للقصيدة بوصفها تجربة وجودية شاملة، تتجاوز المفهوم الأداتي للكلمات وتعيد الاعتبار لما يسمى بـ ( المعنى الغائم) أو (المعنى المشع)، كما سماه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في فلسفة الخيال والشعر, وهو تفكيك العلاقة بين اللغة والواقع وتركيزه على أن الشعر ليس أداة لنقل المعنى , بل هو طاقة مشعة تخلق واقعا خاصا بها , ومصطلح (المعنى المشع ) هو وصف من المعنى لا يفهم بطريقة خطية أو تفسيرية, بل يتولد من الصورة الشعرية ودواخلها , الخيال الشعري قال فيه باشلار الخيال الشعري لا يعمل بالعقل، بل بالحدس والتأمل ,والقصيدة لا تفكر بل تُحلم والمعنى فيها لا يتراكم بل يتوهج , إذن ,القصيدة غير المنطقية في ضوء باشلار هي قصيدة لا تُبنى على منطق بل على تجربة داخلية خالصة , وبذلك هي ليست فوضى لغوية بل مخاض حدسي، تجسِد فيه الكلمات ما لا يقال، وتعكس صدىً داخليًا للأشياء لا صورها المباشرة . في تعريف القصيدة غير المنطقية يصعب تحديد مفهوم نهائي للقصيدة لأن بنيتها تقوم على كسر كل تصور نهائي لكن يمكن الإشارة إلى أنها نص شعري لا يسعى إلى التفسير، بل إلى الاستثارة، لا يطمح إلى المعنى الثابت، بل إلى الاهتزاز العميق ولا يعتمد الحبكة ولا السرد، بل يقيم مجازه داخل الارتباك والتناقض ولا تتحدى المعنى، بل تشكك في أدوات إنتاجه، ثم نسأل: لماذا ينبغي أن تُفهم القصيدة؟ ومن يحدد إن الفهم شرط للتماس مع الجمال؟ يعتمد الجذر الفلسفي للقصيدة الغير منطقية في صميم هذا النوع من الكتابة الشعرية، إذ تتقاطع مرجعيات متعددة  من الفكر ما بعد البنيوي إلى الرؤى الصوفية، ومن السيريالية إلى اللاشعور الفرويدي و كلها تشترك في الإيمان بأن اللغة لا تقول دائمًا ما نقوله، وأن خلف كل عبارة، طبقات لا يطالها العقل بل الحدس , و لقد أشار الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا إلى أن كل نص يحتوي داخله على ما ينقضه، وأن اللغة ذاتها عاجزة عن أن تقول “الحقيقة” كاملة وهذا بالضبط ما تنطلق منه القصيدة غير المنطقية: أن لا حقيقة نهائية يمكن للقصيدة أن تمثلها، بل هناك حفر لا ينتهي في إمكانية المعنى. ملامح القصيدة الغير منطقية ترسم سمات الشكل الشعري لها من خلال تفكيك التسلسل المنطقي , كأن تأتي النتيجة قبل السبب، أو تستعمل أدوات الوصل للفصل، والعكس, و الزمن المفكك لا قبل ولا بعد  بل انسياب حلمي يتجاوز الخط الزمني, ولعل التصوير الغريب أو اللا مألوف الذي استخدم في النسيج الشعري العربي هو قول انسي الحاج : “يدك خفاش يرتجف في شعري” هنا صور الشاعر أن لا يد ولا خفاش، بل توتر داخلي يتخذ شكلاً مادياً بلا مرجع واضح وأن كثافة المجاز المبهم كما قال أدونيس : “أنا الحجر الذي ينسى نفسه في الموج” لا يراد هنا المعنى المباشر بل الإشراق و التوتر بين الثبات والتحول. ومن القراءة إلى التذوق تعمل القصيدة الغير منطقية من حيث التأثير على القارئ بأن لا تطلب من القارئ أن يكون ناقداً بل أن يكون جسداً مفتوحًا على التجربة لا تطلب تفسيرًا بل استقبالًا و لا تُقرأ من أعلى إلى أسفل بل تُغمس فيها كما يُغمس الحالم في حلمه , أي إنها تعيدنا إلى لحظة ما قبل التفسير لحظة التلقي الخام، حيث المشاعر لا تخضع لتمارين الفهم بل تلمس كما يلمس الحنين أو الذكرى , و في زمن تُنتج فيه القصائد تحت ضغط الفهم الفوري والدفاع عن اللاوضوح تصبح القصيدة الغير منطقية ضرورة , حيث إنها ليست ترفًا بل ملاذًا لغويًا لروح تتألم المخاض الشعوري من فرط المعنى , فيها يعود الشعر إلى وظيفته الأولى أن يقول ما لا يقال وأن يشير إلى ما لا يُرى أن يُحدث فينا ارتجاجًا لا تفسيرًا . تزامنت القصيدة غير المنطقية مع تقاطعات رمزية في الصوفية، في الشعر الصوفي كما عند ابن عربي أو النفري نجد بنى لغوية تفلت من القبض العقلاني وتعتمد على الإدهاش والرؤيا، حيث قال النفري: “وقفتُ بباب لا يُفتح إلا لمن لا يريد الدخول “مثل هذه العبارة وإن جاءت من سياق ديني تتقاطع عميقًا مع بنية القصيدة غير المنطقية، إذ تُلغى العلاقة السببية ويستبدل الخطاب بإشارات غامضة تتطلب حدسًا لا شرحًا، وقال أيضا: “أوقفني في مقام النسيان، وقال لي: تذكر” هنا تفكّك تام للمنطق، كيف يُمكن التذكر في مقام النسيان؟ هذه العبارة لا تحتمل تأويلًا عقلانيًا مباشرًا لكنها تنتج طاقة رمزية هائلة تحاكي المفارقة الصوفية التي تنطلق من التناقض لا التفسير. ومهما تنوعت محاور الشعر، فالقصيدة غير المنطقية ليست نقيضًا للقصيدة، بل هي قصيدة وصلت إلى حدها الأعلى من الإدراك، فخرجت منه، وحده الشعر حين يتجاوز منطقه يستطيع أن يلمس فينا ذلك الجزء الصامت الذي لم يقتنع يومًا بأن اللغة صادقة تمامًا، لهذا لا تُفهم القصيدة غير المنطقية بل تُقشعرّ لها رمزية اللغة , إن القصيدة غير المنطقية ليست خروجًا عن اللغة، بل استنطاقٌ لأقصى حدود اشتغالها ,هي لا تكتفي بكسر أدوات الخطاب التقليدي بل تعيد مساءلة الوظيفة التاريخية للشعر ذاته، من كونه رسالة جمالية قابلة للفهم إلى كونه فضاءً تعبيرياً ينتمي إلى الهامش، والرؤيا، واللايقين , ولعل أهم ما تمنحه هذه القصيدة للممارسة الشعرية هو استعادة الشعر بوصفه انفعالًا معرفيًا مفتوحًا لا يتحقق عبر التراكم الدلالي فقط، بل عبر الانقطاع، والإدهاش، إنّ اللا منطق الشعري هنا ليس حالة فوضوية بل خيار إبداعي ناضج، يشتغل على زحزحة مركزية المعنى، وفتح أفق التلقي على الاحتمال لا الحسم، ومن هنا فإن القصيدة غير المنطقية، كما تتجلى في نماذج متعددة عالميًا وعربيًا تمثل لحظة وعي مضاد، تحرر القصيدة من الوظيفة التقريرية وتعيدها إلى دورها الأكثر صدقًا: أن تكون (صوتًا) لا يُنتظر منه أن يُشرح بل أن يرفع لغة الشعر من مكانها المعتاد.