القراءة في الصغر كالرقص مع المطر !.

لوالدي، رحمه الله رحمة واسعة، فضل في أن أعرف القراءة والكتابة قبل أن أدخل المدرسة، وحيث لم يكن يوجد حين طفولتي روضة فقد أدخلني روضة أبوة حانية، علمني فيها بصبر وحرص الأحرف ثم كتابة وقراءة كلمات صغيرة ثم حفظ آيات قصيرة. وحين دخلت الصف الأول الابتدائي كنت متلهفا لقراءة أي شيء مكتوب، ووقعت بيد مدرس تفاجأ من أني أخفف عليه مهمة تحفيظي للحروف وأستطيع كتابة وقراءة بسيطة، فأكمل المهمة من حيث انتهيت، بتشجيع إطرائي كان له مفعوله طوال المرحلة الابتدائية. من هناك بدأ عشقي للقراءة صغيرا، وبدأت في المرحلة المتوسطة في أن يكون لي مكتبتي الصغيرة بكتب ومجلات تناسب اهتمامي وتخرج بي من إطار ومدار الكتب المدرسية، وعلى مدار العمر وتطور مراحله كوّنت مكتبة خاصة متنوعة. عرفت في صغري القول الشهير ( العلم في الصغر كالنقش على الحجر) لكني في كبري عرفت شيئا آخر بجانب العلم هو المعرفة، والمعرفة تتطلب الوعي والإدراك الذي لا يتطلبه العلم التلقيني التحفيظي، ولا يمنح على المعرفة شهادات دراسية لأنها أرحب من العلم الذي تقدمه المدرسة والجامعة، وأفكر بأن المعرفة هي ما تمنحه القراءة الحرة خارج المقررات المدرسية. إن كان العلم في الصغر كالنقش على الحجر فإن القراءة في الصغر هي ما تجعل لذلك النقش معنى وليس مجرد نقش على حجر مهمل، وذلك لأن المعرفة تتطلب تأسيس وعي وإدراك لمعنى الشيء وترقى بمفهومه وتجدده، بعكس العلم الذي قد يجعله ثابتا كنقش على حجر غير متحرك. وفي الغالب فإن المعرفة لا توجدها إلا قراءة حرة فاعلة تبدأ رحلتها الذهنية منذ سنين العمر الأولى، إذن القراءة في الصغر كفعل المطر القراءة الحرة الفاعلة فكريا توجد بواسطة بذرة فكرية مستقلة عن البذور المتراصة، وهي حين تبذر في سنين العمر الاستقلالية الأولى تُنبت شجرة شغف تتطلب المزيد من السقاية، تلك هي سقاية شجرة الشغف المعرفي بالكتب حين كانت لوحدها هي الوعاء والماء.. والكتب كالبشر فكرياً، هناك العميق والسطحي والمفكر والناقل والمتجدد والجامد والإبداعي والتقليدي والمتفرد والمكرر والعلمي والتجهيلي. والقارئ الجيد، وبمفهوم القراءة الفكرية الحرة، سيوجد كتاب يكبر عنه وكتاب يكبر معه وكتاب يهمله وكتاب يعود إليه وكتاب يصحبه.. وأكاد أجزم أن من لم يعشق قراءة الكتب صغيرا لن يكون قارئاً جيدا لها حين يكبر، إلا في حالات نادرة، ومن هنا أعتقد أن عشاق القراءة التقليدية في تناقص مستمر، لأن الأطفال في عصرنا لا يمنحون فرصة عشق للقراءة مهما كثرت محفزات القراءة، حيث يختطفون عنها من الأكثر تأثيرا وإغراءً.