أوهى أوهام المثقفين.

يشهدُ التاريخ والواقع بأن الحياة ليست في كل الأحوال عادلة؛ فليس لكل مجتهدٍ نصيب دائمًا؛ فكم من موهبة وئدت، وكم من عظيمٍ ثَقُل بعلمه وإبداعه فلم يحتمله المشهد فاختفى في الأعماق، وكم من خفيف الرأس والفكر، محدود الموهبة طَفَا على السطح، وملأ الدنيا ضجيجًا، وحياةُ العلماء والأدباء والفنانين مليئة بالشواهد على ذلك أيضًا. ولا شكَّ أن شيئًا من النجاح والشهرة مَرَدُّهُ إلى الحظ والنصيب، ولكن ما يستطيعه المبدع وما ينبغي له هو الاستمرار في المحاولة، وبذل الجهد، على ما في ذلك من مشقة؛ فهو أولى من إن يسلك طريق الشكوى، وادعاء المظلومية، واصطناع النضالية، وإلقاء اللوم على الآخرين. أجل قد ينتاب الكاتب والمثقف شعورٌ بالإحباط وعدم الجدوى، ولكنها لحظات عابرة؛ عليه أن يتجاوزها؛ بالتوقف والصمت، أو بالاستمرار والانشغال بتجويد عمله، وتطوير أدواته، والسير في السُّبُل الممكنة لتقديم نفسِهِ من خلال الإبداع، فيكونُ في منافسةٍ دائمة مع نفسه، لا مع الآخرين، ثم لينتهِ به الأمر حيثُ شاء الله، ولا يُلامُ المرء بعد اجتهاده. ولكنَّ بعضَنا يَشغَلُ نفسَهُ والآخرين بالشكوى ممن يصفهم بالمتآمرين والحاقدين؛ ويَدَّعِـي المظلومية؛ فيصطنع الخصوم، ويدَّعي النضال الثقافي، ويشكو الخذلان؛ ومرجع ذلك إما إلى وهم الاستحقاق؛ فهو يظنُّ أنه أكبر شأنًا مما هو في الحقيقة، وقد يكون عارفًا بحقيقة موقعه من الموهبة والإنجاز، ولكنه يحتال بهذا الادعاء والشكوى إلى إيهام المتلقي بأنه اجتاز عوائق وصعوبات، وربما مؤامرات؛ فإن صادف شيئًا من النجاح - وقلَّما يفعلُ الناجحون ذلك - فستكون قيمة نجاحه أكبر، وإن فشل فسيُلقي باللائمة على الظروف والآخرين، والمتآمرين، ويَتَخَفَّفُ - في ظنَّهِ - من مسؤولية الفشل. لقد ضجَّت المقالاتُ، والقصصُ، والسِّيَرُ الذاتية، ووسائلُ التواصل، بأصوات الشكائين والنضاليين؛ الذين يختلقون من أوهامهم الأقاصيص، ويحملون سيف الادعاء ليصارعوا به طواحين الهواء، على طريقة (دون كيشوت)، ثم يروون البطولات وعلى المتلقين أن يقفوا على أطراف أصابعهم متطلعينَ لما تنفرج عنه شفاهُهم، أو ما تخطُّه أقلامُهم؛ أو فسيكونون جزءًا من معركتهم المزعومة، ولَعَلَّ سقفُ التوقعات المرتفع أحدَ أسبابِ هذا الشعور المخاتل؛ دون إدراكٍ للوهم الذي أودى بهم في حبائلِ الحيلِ النفسية؛ من الشعور بالخذلان، والجحود، والإهمال، حتى وجدنا من يجاوز الشكوى إلى الانتقام بإحراق مؤلفاته، أو الادعاء بأنه أحرقها.