أبطال حالات الإعاقة يروون قصصهم الملهمة.

بحمد الله تعددت الكتب التي تتحدث عن أصحاب الهمم، وهم ممن يًطلق عليهم أصحاب الاحتياجات الخاصة، أى الذين ولدوا بإعاقة لسبب ما، وقد سموا أصحاب احتياجاتٍ خاصة لأنهم يحتاجون رعاية وتأهيلا مختلفا عما يحتاجه معظم الناس. أضرب مثالا بثلاثة كتب رائدة، كتاب “ همم قهرت المستحيل” للدكتورة هند إدريس المتخصصة في التعليم الخاص، وكتاب “ في بيتنا متلازمة داون “ للروائية كواكب منصور النجار “ ، وكتاب “ سطور مضيئة معهم “ للكاتب محمد توفيق بلو، وهو كاتب وناشط اجتماعي في مجال تأهيل أصحاب الاعاقة البصرية، وكان الرئيس المؤسس لجمعية إبصار. اللافت للنظر أن المؤلفين جميعا لهم تجاربهم الخاصة -من خلال أسرهم - في التعامل مع أصحاب هذه الحالات، وكلهم مثل لامعة على النجاح والتفوق، وتجاربهم ملهمة لغيرهم. أهمية هذه الكتابات لا تقتصر على تشجيع الآخرين وإضاءة الطريق أمام المحتاجين منهم، ولكنها أيضا تشجع المجتمع على التعاون لكى يتأهل نفسيا واجتماعيا للتعامل مع هذه الحالات، ومن خلال عرض الحالات نكتشف ما يستجد مما يستدعى استجابة المجتمع للتعامل الإيجابي معهم، تدلل النماذج التى نتعرف عليها من خلال هذه الكتب أن أكثر هؤلاء يصبحون إضافة إلى المجتمع، ودليلا على رقيه، ونرى هنا أن كثيرا منهم قد تم ابتعاثهم فحصلوا على تأهيل عال، يجعلهم أكفأ من غيرهم في التعامل مع ما يشابههم من الحالات. عرض التجارب الشخصية للعائلات التي تعاملت مع هكذا حالات أمر مهم، إذ قبل عصر غير بعيد، كانت هذه العائلات تنعزل اجتماعيا، تفاديا لما قد يتعرض لها أبناؤها من ردود أفعال الآخرين، المستهجنة والمستغربة وحتى المشفقة، كلها مؤذية وإن حسنت النية وراءها، التأهيل المناسب ضروري للمحتاج وعائلته والمحيط القريب، والمجتمع، الفضفضة مهمة وتشارك التجربة ضروري. زرت أحد المستشفيات الأوروبية، لفت نظري مساحةٌ جدرانها زجاجية تجعلها متواصلة مع الحديقة، تجلس فيها نساء وأطفال، تساءلت فوجدت أن المستشفى يرتب لقاءات للأطفال ذوي الاحتياج وعائلاتهم ممن تتشابه ظروفهم الصحية، في أجواء ترفيهية يلتقين مع من يزودهم بالخبرة، تتصادق العائلات، وتتبادل التجربة، الأطفال يساعدون أمهاتهم على قضاء الوقت والأمهات يساعدن أبناءهن على التواصل مع الأطفال الآخرين واكتساب المهارات باللعب، وهذا نشاط أرجوا أن يتوافر في مستشفياتنا، وجمعياتنا الاجتماعية. ما تحفل به هذه الكتب يجعلها جاذبة للقراء، يجتمع فيها الوجع مع الأمل، رغم أنك لا تستطيع مقارنتها أدبيا بـ” الأيام” السيرة الذاتية لأشهر أديب ذي احتياجات خاصة، لكن بُعدها الإنساني يمنحها الكثير.   في كتابه “سطور مضيئة معهم” يحكي لنا المؤلف محمد توفيق بلو حكاية عن إثني عشر ممن تعامل معهم من خلال عمله في تأهيل ذوي الإعاقة البصرية، بين عامى ٢٠٠٣ - ٢٠١٥، وقد سبق له نشرها في صحيفة غرب وعلى موقعه الإليكتروني، وعند تقديمه لكل حالة يذكر لنا عدد مرات القراءة للمهتمين عندما تصدرت هذه المقالة على موقعه، وكل منها حظي بعشرات الألوف من القراءات، كما نشر بعض التعليقات التى جاءت من القراء، وعندما اختارها لتعرض في الكتاب تواصل مرة أخرى مع أصحابها لنعرف أين رست حياتهم! وهذا أضفى قيمة تحفيزية كبيرة على الكتاب.   في حديقة الإرادة، وهي حديقة إقامتها بلدية مدينة جدة وهيأتها لذوي الإعاقة، لفتت أم عبد الله الأنظار بعزيمتها وقوة إرادتها وأصبحت نجمة الحديقة. لها ثلاثة أبناء مصابون بإعاقة حركية وإعاقة ذهنية، عبدالله وصل إلى الرابعة والثلاثين بينما عمره الذهني ثلاثة أعوام، وعلاء بلغ الثلاثين وعمره الذهني خمسة أعوام، وقد توفيت ابنتها عهد وكانت على نفس حالة أخويها، عندما غرقت في مسبح البيت الذي أًعد خصيصا لمثل هذه الحالات. وقفت أم عبدالله حياتها على ولديها، توفي زوجها متأثرا بصدمته عندما غرقت ابنته، لديها مساعدة منزلية وسائق، تأخذ ابنيها إلى الحلاق، وتغسلهما، تقص أظافرهما، تلبسهما أجمل اللباس، ترافقهما إلى الحديقة، أفلح ابنها علاء في رمي كرة السلة في الشبكة ينادونه كابتن علاء فيهتز فرحا على كرسيه المتحرك، ثلاثون عاما على هذه الحال، سألتها صديقتها : إن كانت مثل أمهات في وضعها تخشى أن تموت قبل أبنائها فيضيعوا، ردت باطمئنان عجيب “كن مع الله و لا تبالى… لي ولهما الله”. ، أصيبت الأم بسرطان البنكرياس، وهو من أقسى أنواع السرطانات، توفيت بعد أن أوصت برعاية ابنيها إلى أختها وأوصت بالمساعدة المنزلية والسائق خيرا اعترافا بالجميل. لم يتمكن الكاتب من التواصل معهما قبل طبع الكتاب، الله خيرٌ حافظا وهو أرحم الراحمين.  خلال حضوره فعاليات المؤتمر الدولي للتعليم التقني وإعادة تأهيل العوق البصري المنعقد بماليزيا عام ٢٠٠٦ ، التقى المؤلف صابري تنبيركن، الألمانية، وقد أصيبت بالعمى عندما كانت في الثانية عشرة من العمر، أدخلت إلى مدرسة داخلية للتأهيل، أجادت الفروسية والسباحة والقراءة بلغة برايل، وهي لغة خاصة يقرأ بها العميان. التحقت بجامعة بون، وتخصصت بعلوم آسيا الوسطى، علمت بأن هناك نحوا من ثلاثين ألفا يعانون من إعاقات بصرية في بلاد التبت، وأن لغة التبت ليست مكتوبة أو مقروءة بلغة برايل، وبإصرار تعلمت لغة التيبت، وطورت على الكمبيوتر أدوات تقوم بتحويل لغة التبت إلى لغة برايل. طافت القرى النائية في جبال التيبت بمفردها تنتقل على الدواب لتقيم أوضاع المكفوفين، ثم أسست بالمجهود الذاتي أول مدرسة لتعليم المكفوفين القراءة والكتابة بطريقة برايل. كانت الأمهات يخبئن أطفالهن المعاقين، ولكنها وصلت إلى إقناعهن، كما كان شح الموارد عائقا حتى اقتنع بها بول كرونينح العامل في الصليب الأحمر، فشاركها العمل وهيأ لها الدعم، أسسا منظمة “ برايل بلا حدود” التى أصبح شعارها “ الكفيف يقود الكفيف” وقد أهلها ذلك لمجموعة من الجوائز العالمية. أثمر التواصل بينها وبين المؤلف عن قيام مؤسسة “برايل بلا حدود” بدعم مشروع تقدم به حسنى بوقس من المملكة يهدف إلى تدريب المكفوفين على مهنة التدليك والمساج، والتحق ببرنامج ممول للتدريب أقامته صابري لتدريب أصحاب المشاريع المبدعة في الهند، وعاد حسني بوقس صاحب الإعاقة البصرية ليدرب عشرات من أمثاله على مهنة تعود عليهم بالاكتفاء الذاتي.   الأستاذ أنور النصار فقد البصر في السابعة عشرة من عمره، حصل على ماجستير في التربية الخاصة من جامعة أوريغون بالولايات المتحدة، وقد تقاعد بعد أن عمل كمشرف عام على دائرة التربية الخاصة بوزارة التعليم. يتحدث عن مشروع العصا البيضاء، الذي أقره الرئيس الأمريكي جونسون عام ١٩٦٤م ، وهي عصا تلفت نظر الناس إلى الكفيف الذي يستعين بها، فيساعدونه في عبور الطريق والوصول إلى غايته وتسهيل ممارسة الأنشطة الاجتماعية والرياضية والترفيهية له. في العالم العربي لا زال التنقل مشكلة للأعمى، فالأرصفة غير مهيأة والمدن غير صديقة للمعوق، بينما الكفيف في الدول المتقدمة يشكو من أن نقطة انتظار المترو بعيدة بعض الشيئ عن مسكنه. أما في بلادنا فنعانى من المشي على الأرصفة واستخدام وسائل التقنية ووسائل المواصلات العامة، الأحياء السكنية غير مهيأة للتنقل، ولا يوجد بها أرصفة، مما يضطر الكفيف للسير على الإسفلت للوصول إلى المسجد فيتعرض لخطر السيارات. فضلا عن أن المسجد لا يوجد فيه ما يدل الكفيف على اتجاه القبلة ومكان الصف فضلا عن صعوبة الوصول إلى دورات المياه غير المعدة أصلا لاستخدام ذوي الإعاقة، وأمثال هذه الخدمات يتم توفيرها في الدول المتقدمة.  أسامة خالد مسرحي، مصاب بضعف أبصار شديد بسبب القرنية المخروطية، بدأ مسيرته الرياضية كلاعب تايكوندو ووصل إلى تمثيل المنتخب، حصل على عدد من الميداليات، وخوفا عليه من تضخم الإصابة في العين تم تحويله إلى لعبة السباحة، فحصل على الميدالية الذهبية في السباحة  والجري والوثب الطويل في بطولة الخليج للمراكز الخاصة عام ٢٠١٧، وحقق بطولة المملكة في ألعاب القوى لذوي الإعاقة في مسافة ١٠٠ و٢٠٠ متر عدوا، وجاء الرابع في بطولة آسيا التي أقيمت في دبي عام ٢٠١٧، والثاني في بطولة العالم لألعاب القوى في سباق ١٠٠ و٢٠٠ متر، تلك التي انعقدت في سويسرا عام ٢٠١٩ م. وهو يواصل تخصصه في علوم الرياضة ٱملا أن يؤسس ناديا رياضيا لذوي الإعاقة.  حكاية ايمان سليماني التي عانت مبكرا من التهاب الشبكية الصباغي الوراثي، كادت تنعزل اجتماعيا، خاصة و أن أم صديقتها الوحيدة في الصف دخلت الفصل الدراسي هائجة معترضة على جلوس ابنتها بجوار هذه العمياء التى تنقل المرض للآخرين، كانت صدمة شديدة، و تأخرت العائلة في التعرف على برامج تأهيل المعوقين بصريا، ولكن الطبيب الذي أنهى إليها الأخبار الفاجعة بوصول الإبصار عندها إلى نهايته، دلها على مركز التأهيل، بدأ التجاوب، بدأت بالرسم بأقلام فلوماستر ثم استعملت الفحم في الرسم وبرزت فيه، عُلقت إحدى لوحاتها في جمعية إبصار، وعلقت لوحة أخرى  في موقع هيئة الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة، وكانت قد أهدتها إلى الأمير طلال بن عبدالعزيز في أحد الاحتفالات بذوي الإعاقة البصرية. عندما كانت صغيرة لم يكن لديها ذكريات تحكيها لصويحباتها من الأطفال اللواتي يتحدثن عن ذكرياتهن في المدرسة، وتفاعلت لديها الرغبة مع الخيال فأصبحت تخترع القصص، ومع الوقت تطورت موهبتها من الرسم إلى القص، وقد شاركت في مسابقة بابا طاهر لقصص الأطفال. إضافة إلى مشاركاتها في معارض الفنون التشكيلية التى جلبت لها تشجيع الفنانين وثناءهم. يستحق أبطال حالات الإعاقة أن تروى قصصهم وأن نتفاعل معهم، وألا يكتفي المجتمع بما قام، به وهو جيد، ولكن وعي المجتمع ومشاركته يحتاج إلى الاستمرارية والتطور والإبداع.  أشعار الشاعر السوري الكفيف نصر على سعيد لخصت الكثير من معاناة غير المبصرين : كم من ضرير مبصر متوهج     يعطي ويعطي والمدى وهاب وترى ألوف المبصرين بلا هدى    فكأنما فوق العيون حجاب وأسير في درب الحياة لعلني     أحظى بقلب ليس فيه حراب فالناس تنهش بعضها بشراهة   لكأنهم- يا ويلتاه - ذئاب