
زارني قبل أيام ثلاثة من شباب الأحساء، أعرف أحدهم الكاتب أحمد الهلال قبل عقدين إذ كان يُدِّرس بالخفجي ويكتب بصحف الكويت، انتقل عمله للأحساء واستمر بالكتابة بجريدة اليوم وبالمجلة العربية أحياناً، وزارني بالرياض أثناء معرض الكتاب واستمر التواصل بمعرض الكتاب بالقاهرة وغيره، وأهداني على التوالي مؤلفاته: (لست من هذه الطائفة)، و(خطيئة السؤال)، و(خريف المثقف). اتصل بي الأخ صلاح بن هندي من الأحساء لأول مرة يسألني: هل سبق أن كتبت عن الأستاذ عبدالله شباط؟ أو لماذا لم تكتب عنه بصفته من رواد الصحافة بالأحساء؟ فأجبته: بأني كتبت عنه وتجده بالجزء الثالث من ( أعلام في الظل)، وعندما علم أنه من مطبوعات نادي المدينة الأدبي، قال أنه سيكتب لهم للحصول عليه، فقلت له لو تيسر لكم زيارة للرياض أو تكلف أحد الأصدقاء بالاتصال بي لأهديك الكتاب، ولكوني أول مرة اسمع مداخلته على هامش محاضرة ألقاها الأستاذ أحمد الهلال بالأحساء عن المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، قبل أشهر، انتهت المكالمة برغبته بزيارتي بالرياض فرحبت به وطلبت منه إبلاغ الهلال برغبته فقد يرافقه، وهكذا كان فقد تمت الزيارة ورافقهما الشاعر خالد الحيدر. وقضينا ساعتين في الحديث عن الشأن الثقافي، وعن ذكرياتي بالأحساء -95-1398هـ/75-1978م عندما كنت أعمل بمكتب رعاية الشباب، وكانوا وقتها أطفالاً لم يدخلوا المدارس بعد. قدم لي الأخ صلاح بعض ما نشر له: ((ومزقت قناعي)) مجموعة مقالات وتراجم لبعض العلماء. و(مراهق في متاهات العقيدة) سيرة فكرية، يصف فيها شبابه ومراهقته وتعلقه بالكتب الدينية والفلسفية وقال ((لقد عشت وقتها تخبطات فكرية وعقدية رهيبة، وكان عقلي الطري مثل سفينة تتقاذفها الأمواج يمنة ويسرة.. كنت أقرأ هذه الكتب دون أستاذ ينير لي الطريق، فكنت أتخبط في شراك الأقوال والآراء.. وفي السادسة والعشرين من عمري وجدت طريقي إلى ندوة الشيخ أحمد المبارك الأدبية الأحدية.. ثم حصل بعد ذلك تغير طرأ على حياتي الثقافية والفكرية.. ))ص34. والكتاب الثالث (ثمالة الغوص) مجموعة قصصية، تحكي زمن الغوص والبحث عن اللؤلؤ في أعماق البحار، مما يسمعه ويسجله من روايات من بقي على قيد الحياة من كبار السن من الذين كانوا يعيشون على ما يجود به البحر. وهو الكتاب الذي يحسن التوسع في تناوله، لوجود مسميات ومصطلحات لم تعد معروفة لانتهاء زمنها وكلها تتعلق بالبحر ومهنة الغوص في أعماقه للبحث عن كنوزه. مع الحذر من غدره قال عنه في المقدمة: ((.. هو ليث جاثم في عرينه، ووحش كاسر مخيف، إن جاع ابتلع، وإن شبع قنع، كم من بحارة ابتلعهم كما ابتلع (كرونوس) أولاده!!- .. أنه لم يشخ ولم يهرم، لأنه يعيش شيخوخته جزراً كئيباً، ثم يستعيد شبابه مداً صاخباً، وكما يستبطن الشيخ الهرم التجارب والذكريات، يستبطن هو الحيتان والأسماك واللآلئ البراقة. هو البحر غُصْ فيه إذا كان راكداً.. على الدر واحذره إذا كان مزبداً..)). وقال: ((.. وما أشجع بحارة الخليج حين دخلوا البحر على متون (خشبهم) التي صنعتها (قلاليفهم) عرايا إلا من ( وزرة) بالية، تستر عوراتهم وأجسامهم السمراء، التي لوحتها أشعة الشمس. جاءوا إلى البحر، ليوقظوا أمواجه، ويقضّوا مضجعه!! نزل (غاصتهم) قاعة دون سلاح، ممسكين بحبل (الزيبل) الذي ربط به رصاص أو حجر ثقيل، كي يسرع وصول الغيص إلى قاع البحر، كل واحد منهم يضع (الفطام) على أنفه والمكتل (الديين) في عنقه، كي ينزعوا المحار من فك البحر المفترس!! ووحوش البحر تحدق بهم. فإذا ما امتلأ المكتل بالمحار، وأحس الغيص بانقطاع نَفَسهْ، حرك حبل (الجدا) المتصل بالمكتل، إشارة منه للسيب الذي يقف على سطح السفنية، بأن يجر الحبل، فإذا صعد إلى السفنية، نثر السيوب هذه المكاتل وراحوا يفلقونها بمفلقة تعودت على فتح فم المحار كي ينطق بالدر واللآلئ التي في جوفه. هذا اللؤلؤ هو ما أغراهم بمصارعة البحر وأهواله، وجعلهم يتحدون أبا البحر (بو درياه) الذي كان (بو سيدون) كما عند الإغريق و(نبتون) عند الرومان!!..)) ص6-7. عندما وصلت إلى اسم (الديين) تذكرت اسم الأستاذ المؤرخ أحمد الديين بالكويت صاحب مكتبة ومجلة (قرطاس) والذي قابلته وأنست به. فاتصلت بالمؤلف ابن هندي، متمنياً لو وضع قائمة في آخر الكتاب أو في الهوامش لتفسير تلك المسميات المنقرضة. فاكتفى بتعريف (الديين) وهو في الأصل (الدجين) ولكن نطق أبناء الخليج يقلبون الجيم ياءاً، وهو المكتل الذي يعلق بعنق الغواص ليجمع به المحار وقت الغوص أما بقية التعريفات فقد تركها بمسمياتها القديمة ليسأل القارىء عنها أو يعود إلى جوجل فلديه الخبر اليقين. ولعلي استعرض على عجل بعض ما تناولته هذه القصص من المسميات التي لا يعرفها غير أهلها. والذي شجع المؤلف على كتابته هو مقابلته (لسبع البحر) النوخذة (سلطان بن كايد) والذي قال يصف البحر: (( .. البحر يشبه الإنسان، أو العكس هو الصحيح، لأن البحر خلق قبل الإنسان. البحر يحب ويكره، ويسخط ويرضى، البحر يا ولدي عاشق كبير وقديم، عاشق لليابسة ومن عليها فالمد الذي نسميه (السجي) هو لهفة البحر لمعشوقته لما يغمر الشاطئ بمياهه. والجزر الذي نسميه (الكراح) هو هجر البحر وابتعاده عن معشوقته. البحر يتألم ويكتئب ساعات، البحر مثلنا يا ولدي، أحياناً يغضب من البحَّارة فيكون مثل الوحش الكاسر، وأحياناً يحن ويعطف عليهم، فيهدهد مركبهم بهدوء وكأنه أم تهز (منز) رضيعها، لينام ويرتاح. البحر كائن حي، مثل الحصان يحس بصاحبه وصاحبه يحس به. (البحر صديقي من زمان، شافني صبي وشافني شباب وشافني رجال كبير، فهو أعرف المخلوقات بي)، ص13. ومن المسميات الخاصة أو المصطلحات البحرية: (كاتلي) و (المجدمي) و(صمخ النواخذة) و(السيوب) و(النهام) و(خواهر) و(تباب) و(السحتيت) و (غمري) و(التركيت) و(بندول) و(دبوسة) و(البوم) و(الجدا) و(السيب) و(الدشة) و(طبعة) و(وحش الكانة) و(سكوني) و(الدقل) و(تباب) و(القفال) و(القلاف) و(بندول) و(الغيص) و(الزيبل) و(التسقام) و(السلف) و(الخرجية) و(رضيف) و(البروة) و(الخن) و(الشلامين) و(فنة السدر) و(مجادح) و(مناقر) وغيرها. ((.. ها هو البحر الوديع يبدو في عيني كأسد نائم، ما أن يشعر بالمراكب تمخر عبابه، حتى يستيقظ فيخرج مخالبه على شكل أمواج عاتية، تفترس المركب بمن عليه..)) ص49. تذكرت أغنية (غدار يا بحر) للثلاثي جواد الشيخ وعبدالرحمن الحمد ومحروس الهاجري والتي اشتهرت قبل سنوات. أعرف من كلماتها: غدار أعرفك يا بحر ضحكت أمواجك تسل السيوف تطعن في الظهر خذ يا بحر كل ما تبي اللؤلؤ والمرجان والثوب الحرير كل الحلي صارت رماد فدوة لعيون السندباد فدوة لكم يا عيون هلي خذيا بحر كل ما تبي بس يرجع المحبوب طول في السفر .. غدار أعرفك يا بحر.. الخ. أما الشاعر خالد الحيدر، والذي ِأهداني ديواني شعره (وشوشات الصمت) و(المرأة شباك الدنيا) الذي قال في مقدمته: ((.. ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً مضت أي من عام 1409هـ أيام دراستي في قسم اللغة العربية، حيث درست العروض وبدأت كتابة الشعر.. ومن حسن المصادفات في تلك الفترة أنني التقيت ذات ليلة بالأديب الدكتور راشد المبارك، واقتنصت تلك اللحظات فأسمعته بعضاً مما كتبت فقال لي أنت شاعر، وشجعني ونصحني بارتياد أحدية الشيخ أحمد المبارك. وبالفعل داومت على حضور الأحدية سنوات وشاركت مرة بقصيدة عن المعلم، والقاها أيضاً بعض الطلاب في مسرح إدارة التعليم. انقطعت عن الشعر بعد ذلك، ودام هذا الانقطاع لسنوات.. ومع تقدم السنوات وانصرافي عن الشعر والأدب تفاجأت بأنني لم أحقق ذاتي في هذه الحياة، وتحقيق الذات كما هو معروف لا يكون إلا بالكتابة عنها.. وعبرت عن ذلك بقولي: ولما أن عييت وزاد بأسي خلعت عباءتي وأرحت نفسي فما أقسى الحياة إذا تقضَّت وكل رغائبي بيعت ببخس أخيراً قد صحوت ودق جرسي وكاد العمر في النسيان يمسي وبعد صدور دواوين ومؤلفات لمن حولي من الأصدقاء.. أصبحت لدي يقظة أدبية، وأخذت اتعافى شيئاً فشيئاً من هذا السبات العميقِ، والموهبة لا تموت، ولكن يعلو عليها غبار السنين.. بعد هذه الرحلة المترنحة استقرت راحلتي ورست مراكبي على جزيرة الحس والخيال، جزيرة الشعر، فخلال العام المنصرم وهذه السنة انهالت علي القصائد بفضل الله وتشجيع رفقاء دربي شباب البنديرة، وهم شباب لامعون في ميدان الثقافة والأدب، وأخص بالذكر صديقي الأديب الأستاذ صلاح بن هندي الذي استفدت من توجيهاته الشيء الكثير..)) ص8. تحية إعجاب وتقدير لهؤلاء الشباب.. متمنياً للجميع التوفيق ومواصلة المسير.