عقدةنفسية أم جودة تستحق الاقتناء؟

الهوس بالماركات ..

يُسرع البعض لشراء كل شيء ممهور بماركة عالمية، حتى صار الأمر نوعًا من أنواع الهوَس النفسي بالرغم من ارتفاع الكلفة المادية بشكل مبالغ فيه، فهل الأمر حقًا يستحق نظرًا لجودة المنتج الذي يحمل ماركة شهيرة حتى وإن كان هناك بديل محلي بنفس الجودة ويؤدي نفس الغرض؟، أم أن الأمر مرتبط بمقاييس اجتماعية تعتمد على المظهر الخارجي كدلالة على فخامة الشخص ومستواه الاجتماعي؟! ثقـافـة الاستهلاك تعيش المجتمعات اليوم في عصر تسود فيه ثقافة الاستهلاك، وأصبح من المعتاد على الكثيرين تقديس المنتجات التي تحمل ماركات عالمية مشهورة. البروفيسور “علي بن صحفان الزهراني”، أستاذ واستشاري الأمراض النفسية بكلية الطب ومحرر صفحة الطب النفسي بجريدة الرياض سابقا، يرى أن “هوس الماركات يقف ورائه الثراء الفاحش الذي يعيشه بعض أفراد المجتمع، فالغني من حقه أن يصرف ماله في الأوجه التي تطفئ حالات اضطراب المزاج التي يمر بها بين الفينة والأخرى، والتي يرى من وجهة نظرة أن اقتناء الماركات واحدة من المحاولات التي يجربها لعل وعسى ينشرح صدره بعد اقتنائها!، ولكن ما الذي يدعو الناس العاديين إلى الهوس باقتناء هذه الماركات إذا كانوا لم يكملوا توفير احتياجاتهم الأساسية؟!، هذا السؤال مشروع والإجابة عليه مطلب!”، وتابع الزهراني: “لعلنا ونحن نجيب هنا عن هذا السؤال نسترجع (هرم ماسلو للاحتياجات) حيث أن الإنسان لا يمكن أن ينتقل للاحتياجات النفسية (تقدير الذات) إلا بعد أن يشبع الاحتياجات الفسيولوجية أو الأساسية من مأكل ومشرب وخلافه، وكلما اتسعت الطبقية بأي مجتمع كلما زاد المهووسين والمتعلقين بالماركات والتي قال عنها البعض إنها كذبة تسويقية، صنعها الأذكياء لسرقة جيوب الأغنياء، فصدقها السذج من الفقراء”. وأضاف الزهراني: “البعض من أذكياء الفقراء، أو دعنا نقول بعض أفراد الطبقة الوسطى استخدم احدى حيله الدفاعية أو ما يسمى بالتسامي من أجل إطفاء احتياجاته النفسية، إما بتقديم أو تأخير احتياجاته من أجل اللحاق بالطبقة الغنية أو باللجوء إلى الماركات المقلدة، والتي أقول إن الصين فعلت خيرًا في هذا التقليد من أجل علاج الفقراء من أصحاب الشخصيات الحديه أو الشخصية النرجسية أو أصحاب الشخصيات التي تتسم بجنون العظمة، وأنا أقول هنا إن لا علاقة لهذه الماركات بالغنى أو الثراء إطلاقًا، لأن هناك أغنياء لا تعنيهم الماركات، وإنما الأمر لا يعدو مجرد إشباع لتقدير الذات المنخفض لدى البعض، حتى من أبناء الطبقة الغنية، ولربما يشعر البعض بسعادة وهمية لبرهة، ولكنه سرعان ما يعود لشخصيته المهزوزة، وبالطبع لا بد أن نعرج هنا على دغدغة المشاعر من قبل الإعلام الموجه لسلب جيوب السذج وأصحاب الشخصيات المهزوزة بحملات دعائية مركزة عن طريق مشاهير الإعلام الحديث أو باستخدام المشاهير من لاعبين وفنانين بعمل حملات منظمة بمواقع التواصل الاجتماعي وبالمطارات والتليفزيونات.. إلخ، من أجل امتصاص جيوبهم والتمادي في زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتوسيع الهوة بينهما”. أسـباب متعـددة من جهتها؛ فقد قالت “د. نهلة عبدالسلام”، خبيرة التنمية البشرية واستشارية الإرشاد الأسري، إن “حب التميز وتقدير الذات يختلف من شخص لآخر، فجميعنا نسعي لتقييم أنفسنا بشكل إيجابي للتميز والحصول علي الإحترام والأهمية والتقدير من الآخرين، وهذا طبيعي، ولكن أصبح لدي البعض أفكار خاطئة حول تقدير الذات، فهناك من يري قيمته وأهميته وشعوره بالثقة وسط الآخرين ، وذلك من خلال شراء أو اقتناء بعض الماركات العالمية الشهيرة إلي الحد الذي وصل بالبعض منهم للهوس بهذه الماركات رغم أسعارها الخيالية و المبالغ فيها”، وتابعت عبدالسلام: “هناك الكثير من الدوافع والأسباب وراء الهوس بهذه الماركات، منها أسباب نفسية؛ فنجد بعضهم ـ حتي وإن كانت ظروفهم المادية لا تسمح بذلك ـ يلجؤون لشراء الماركات المقلدة للتباهي والشعور بالسعادة والثقة والمكانة الإجتماعية بأنهم أصبحوا من فئة المجتمع الراقي، هذا هو التقليد الأعمى للمشاهير، بما يرتدون وبما يقتنون من ماركات باعتبارهم أيقونات للموضة ومواكبة العصر، الشعور بالنقص أيضا من أهم أسباب الهوس، ولإشباع وتعويض هذا النقص يتم اللجوء لهذه الماركات، ولا يجب أن نغفل الحملات الدعائية الضخمة لهذه الماركات التي تلعب علي مخاطبة النفس البشرية طوال الوقت وإقناعها بأنها عنوان للشخصية من خلال التميز والتفرد والجاذبية في حال شراء هذه الماركات”. وتتضيف: “هناك أسباب اجتماعية أيضا؛ فالبعض يقع ضحية مجتمع محيط به يهتم بالمظاهر فقط، فالعلاقات والأعمال المتميزة فقط قائمة على المظهر، فيضطر البعض للتصنع في المبالغة في المظهر من خلال هذه الماركات لنيل القبول والمكانة المرموقة في مجتمعه، كما أن الهوس بالماركات يسبّب الكثير من المشكلات، منها مشكلات أسرية، فهناك بعض الأسر لا تستطيع توفير المبالغ الباهظة لشراء هذه الماركات، وبالتالي الكثير من الخلافات سواء بين الأهل والأبناء أو بين الأزواج وبعضهم وغيرها من المشكلات، لذلك نحتاج للمزيد من الوقت والتوعية بضرورة الفهم الصحيح والمتوازن حول ثقافة تقدير الذات وكيفية بناء شخصية واعية وقادرة علي التكيف مع مجتمعها وفق معايير مختلفة للتميز منها الثقة بالنفس وفق قدراتها وامكاناتها المتاحة، لا وفق مظاهر خادعة فقط، وبجانب الأخلاق والتواضع والمعرفة والثقافة والتميز في العمل وبناء علاقات اجتماعية سوية وناجحة، كل هذا وأكثر هو ما يضفي علي الإنسان القيمة النفسية والمعنوية والاجتماعية، ولا يجب أن نغفل الاهتمام بالمظهر الجيد أيضا، ولكن دون المبالغة والهوس بمثل هذه الأمور السطحية”. كـذبـة كبيـرة يمكن أن يكون الانجذاب للمنتجات ذات الماركات العالمية مرتبطًا بالمقاييس الاجتماعية والمظاهر الخارجية، ففي بعض الأحيان يعتبر حمل منتج ماركة شهيرة رمزًا للفخامة والثراء، ويتم ربطه بمستوى اجتماعي مرتفع. قد يتعلق الأمر بالرغبة في إظهار النفس والتمتع بالاعتراف والاحترام من الآخرين. ولكن هل يجب أن تكون قيمتنا الاجتماعية مرتبطة بالمظاهر الخارجية والماركات العالمية؟، تقول “د. أريج أحمد طيب”، لايف كوتش ومعالج شعوري: “أنا مؤمنة يقينًا بالمقولة التي تقول إن الماركات عبارة عن كذبة كبيرة اخترعها التجّار لاستنزاف الأغنياء وقام بتصديقها الفقراء، فهناك الكثير من محدودي الدخل ممن أصابهم مرض الهوس بالماركات حتي أنهم بدأوا في الاقتراض من البنوك وعمل الجمعيات للحصول علي ساعة أو حقيبة أو هاتف من هذه الماركة أو تلك، مع العلم أن مواقع التواصل الاجتماعي وما تحمله من إعلانات وكذلك مشاهير السوشيال ميديا لهم دور كبير جدا في نشر آفة الماركات، ومن وجهة نظري فإن الذوق الشخصي ومعرفه ما يليق بالشخص له دور كبير في ظهوره بالمظهر الأنيق الذي يليق به، دون أن يكون للماركات أي وجود في نمط حياته”، وأضافت: “هوس الماركات والتقليد الأعمى للمشاهير الأجانب في ارتداء بعض الملابس التي لا تناسب ديننا ولا تناسب تقاليد مجتمعنا الشرقي، وقد أفقدت الكثير من شبابنا من أخلاقياتهم الاجتماعية وموروثهم الثقافي مما أدي إلي سلبهم لهويتهم العربية والإسلامية”. هـوس ومباهـاة عندما نتحدث عن المنتجات ذات الماركات العالمية، فإن العديد من الأشخاص يعتقدون أنها تتمتع بجودة عالية ومتفوقة على البدائل المحلية، ولكن في الواقع قد يكون هناك بدائل محلية توفر نفس جودة المنتج وتؤدي نفس الغرض، ولكن بتكلفة أقل بكثير. فهل يجب علينا الاستمرار في الاندفاع وراء الماركات العالمية بغض النظر عن التكلفة؟، تقول “نهى بنت عبدالرحمن آل فريان”، الأخصائية الاجتماعية: “في الآونة الأخيرة أصبح الاهتمام الأكبر لمعظم الرجال والنساء هو الهوس بالماركات ذات الأسماء اللامعة، وقد شاهدنا كثيرين ينفقون مبالغ طائلة على الماركات العالمية ليس فقط من أجل جودتها، لأن كثيرًا ما نجد قطع محلية لا تختلف كثيرًا عن جودة الماركات إلا في السعر، فالمفهوم الحالي لدى البعض هو قياس مدى فخامة الشخص من ملابس أو حذاء أو حقيبة أو غيرها من الماركات المعروفة اسمًا وتاريخيًا، من الجميل أن يكون لدى كلًا منا قناعة داخلية بشراء ما يمكن شراءه من الناحية المادية ومن ناحية حاجته، مثلًا نوع حذاء مريح بحدود السعر المنطقي المعقول، ولكن للأسف البعض ممكن أن يُدّخِل نفسه في الديون لكي يواكب المجتمع، وفي الواقع فإنه يدخل في منافسة اجتماعية من الآخرين، يجب ان تكون لدينا قناعة بأهمية ما نحتاج إلى شراءه، بغض النظر عن ماركته”. ختامًا، يجب التنويه إلى أن الاهتمام بالماركات العالمية أمرًا طبيعيًا في بعض الحالات، مثلًا عندما يتعلق الأمر بالمنتجات التقنية أو الملابس الفاخرة التي تتطلب تقنيات متقدمة أو تصميمات فريدة. ومع ذلك، في العديد من الحالات، يكون هناك بدائل محلية تلبي الاحتياجات الشخصية بشكل ممتاز وتحقق نفس المستوى من الرضا والراحة. ويمكن أن يكون الاهتمام الزائد بالماركات العالمية مصدرًا للضغط المالي والإجهاد النفسي. قد يجد الأشخاص أنفسهم في دوامة من الاضطراب المالي بسبب الحاجة المستمرة لشراء المنتجات العالمية الراقية، وقد يكون من الأفضل تحرير أنفسنا من هذا الهوس والتركيز على الأهداف والقيم الحقيقية للحياة، ويجب أن نتساءل دائمًا عما إذا كانت هذه جاذبية الماركات تستند إلى الجودة الفعلية للمنتج أم أنها مجرد تأثير اجتماعي يتعلق بالمظاهر الخارجية.