كيف قرأ الشاعر غازي القصيبي المشهَد الفلسطيني؟..
«قد فهمنا.. تهوَّد البعض منّا أولم يبق معشر ما تهود؟».
حمل الشاعر غازي القصيبي الهمَّ العربي والإسلامي على كتفيه؛ إذ عبَّر عنه في أكثر من مناسبة، وبأكثر من أسلوب، فتفاعل مع الأحداث التي مرَّت، وخصوصاً ما اتَّصل بقضية فلسطين، وهو ما سنعمل على كشفه وإيضاحه انطلاقاً من قصيدته “يا فدى ناظريك”، عبر منهجيَّة (الحافز والقرينة). الحافز: القصيدة بشكلها النهائي ليست إلا منتجاً بشريًّا سطَّرته ريشة فنان مبدع، إنما خلف الريشة المبدعة ثمة سبب دفعَ صاحبها ليمارس فنه وإبداعه، فالقصائد لا تخرج من العدم، إذ لا بد من سبب يدعو لكتابتها وحافز يدفع صاحبها، في قصيدة “يا فدى ناظريك” ثمة حكاية مأساوية، انتقلت من حالة فردية خاصة إلى حالة جمعية عامة، حيث أصبحت بمثابة أيقونة ورمز لقضية فلسطين، وهو ما اتكأ عليه الشاعر. حكاية الفتى محمد الدرة، الذي سقط صريعا بين يدي والده؛ برصاصة غادرة أطلقها جندي غاصب، استقرت في قلبه وأنهت أحلامه وأحلام جيل كامل؛ انتظر الخلاص من الذل، فإذا به يتفاجأ بالوحش الإسرائيلي يكشِّر عن أنيابه ويلتهم أرواحهم وما بقي من أمنياتهم، فتضيع الدماء هدراً، ومعها تضيع الأمنيات. الشاعر غازي القصيبي أذهله المنظر وطريقة القتل بدم بارد، شعَر بلا جدوى الحياة الإنسانية؛ لذا جنح إلى ردة الفعل التي أنتجت القصيدة الحالية، إذ أراد منها أن تكون بلسماً، ليس لجراح الشهيد محمد الدرة فحسب، إنما بلسماً لمعاناة شعب يتوحَّد معه في الانتماء، ويتشارك وإياه الهُوية الإسلامية؛ حيث يسكن بقعة من بقاع الرمز البشري، التي لا تختص بديانة أو مذهب، ولا يتفرَّد بها شعب دون آخر. قضية تبدو في أصغر تفاصيلها هامة ومؤلمة، فالمأساة الفلسطينية عالمية الطابع، والشعوب المضطهدة تستشعر البلاء النازل على رأسها وعلى رؤوس أمثالها من المحرومين المعذَّبين، ومن هذا المنطلق؛ أي من باب المشاركة الوجدانية في قضية عالمية والتعاطف مع أهلها تمت كتابة القصيدة، وتحولت من المجال الخاص بالرثاء الفردي، إلى رثاء الوطن والإنسان المُضطهَد والمُطارَد. للشعور بالألم والإحساس بالفاجعة دور كبير ومؤثر في نفس الشاعر، عبّر عن ذلك بالتعاطف مع الشهيد الدرة، ولم يكتفِ بالجانب الفردي من القضية، فانطلق إلى أفق أرحب، حين اعتبرها قضية القضايا وأم المشكلات العربية والعالمية، إذ قضية الإنسان واضطهاده لا تختص ببلد، أو شعب، أو ثقافة، بل تشمل البشر، وتنضوي بداخلها جميع الثقافات. الحافز على كتابة القصيدة؛ يتمثل في المشاركة الوجدانية، وإبراز التعاطف مع الشهيد الدرة، وصبِّ اللعنات على المحتل الإسرائيلي، واعتباره سبب الشرور في البلدان العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وهذا التعاطف يبرز بشكل واضح في ثنايا القصيدة؛ حيث يستدعي الشاعر روحه ويضعها فداء للشهيد وللقضية الفلسطينية، مُستنهِضاً الهمم وداعياً إلى طرد المحتل الإسرائيلي وتحرير الأرض المغتصبة. القرينة: تكون إما خارجية أو داخلية؛ حيث الخارجية تتعلق بكل ما قيل أو نشر أو كتب من وثائق وسجلات حول الحادثة، بما فيها المحاكمات، والمرافعات، والإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وعلى رأسه التصوير المرافق للحادثة، الذي انتشر وأظهر كيفية قتله بدم بارد، وهو مختبئ مع أبيه، أمَّا الداخلية، والتي تُعد أهمَّ من ناحية المقاربة والتحليل؛ لأنها تدخل في صميم عمل القارئ، فتنقسم إلى ثلاثة أنواع: 1/ العنوان: وجاء هكذا “يا فدى ناظريك”؛ ليشير إلى المشاركة الوجدانية، والتماهي مع القضية الفلسطينية، ومحاولة التخفيف عن أهل الشهيد وتعزيتهم. 2/ الكلمات والعبارات الافتتاحية أو التوضيحية: إذ تساعد على فهم القصيدة، واستيعاب ما ورد داخلها من أفكار ومشاعر، والمُلاحظ أن القصيدة تضمنت الكلمات التوضيحية داخلها، ولم تجعلها جزءًا منفصلاً، وهو ما عمَّق الشعور بوجدانيتها: “يا فدى ناظريك .. ناظم هذا القولِ شعرِ المناسبات المقدد!” 3/ الكلمات الدالة أو المركزية: التي يكون معناها بارزاً، فتسير ضمنه بقية الدلالات، وفي القصيدة لا وجود لكلمة دالة بمفردها، بل عبارة دالة ولازمة تكرارية؛ تعملان على تركيز نظر القارئ وأفكاره ضمن اتجاه محدد، ويمكن استخراج عبارتين دالَّتين: “يا فدى ناظريك” – “ألف مليون مسلم”. اللازمة التكرارية الأولى: “يا فدى ناظريك” جاءت في ثمانية أبيات: “يا فدى ناظريك.. كل زعيم حظه في الوغى أدان وندد يا فدى ناظريك.. كل جبان راح من ألف فرسخ يتوعد يا فدى ناظريك.. كل بيان بمعاني هواننا يتوقد يا فدى ناظريك.. كل يراع صحفي على الجرائد عربد يا فدى ناظريك.. كل مذيع في سكون الأثير أرغى وأزبد يا فدى ناظريك.. كل حكيم فيلسوف بثاقب الرأي أنجد يا فدى ناظريك.. كل اجتماع ليس فيه سوى خضوع يجدد يا فدى ناظريك.. ناظم هذا القول شعرِ المناسبات المقدد!” حيث هدفت إلى إبراز ثلاثة أمور: أولاً: التأكيد على تعاطف الشاعر مع مأساة الشهيد؛ فالخطاب بحرف النداء “يا” يتوجه إلى أهل الشهيد عبر دفقة عالية من الشعور، ويظل النداء يتكرر ليؤكد على تعاطف الشاعر مع مأساة الشهيد، واستعداده للحلول مكانه في مواجهة المحتل الصهيوني، وهو ما سيظهر كنتيجة تالياً. ثانياً: التدرُّج في الاندفاع النفسي والعاطفي للتأثير على القارئ، فلا يكتفي القصيبي بالنداء الواحد الذي أدى غرضه بإظهار التعاطف النفسي، وإنما أراد إشراك القارئ في الإحساس بمعاناة الشهيد، عبر ترديد العبارة في ثمانية أبيات متتابعة. ثالثاً: البناء الفني من أجل الانتقال للمرحلة التي تليها، وقد استعمل التكرار لينقل الشحنة الشعورية إلى المتلقي، ثم ختم بنفسه مستخدماً (حسن التخلُّص)؛ ليقفز نحو اللازمة الثانية، حيث هدفه البناءُ والتأسيس بانتظار النتيجة النهائية. اللازمة التكرارية الثانية: “ألف مليون مسلم”، جاءت في ثلاثة أبيات: “ألف مليون مسلم لو نفخنا كلنا لم يدم بناء مشيد ألف مليون مسلم لو صرخنا كلنا زمجر الفضاء وأرعد ألف مليون مسلم لو بكينا كلنا ماجت السيول على اللد” هدف وحيد من تكرار اللازمة؛ تمثَّل في الانفجار العنيف ضد المحتل بغرض القضاء عليه، ولكونه انفجاراً شارك الـ”كل” في إحداثه وصنعه، فنتيجته عدم إعطاء الفرصة للعدو كي ينتبه ويستعد، إذ لا بد أن يأتي كعاصفة لا تبقي ولا تذر، وقد اعتمد في بنائه على الشرط الممتنع أو المستحيل الوقوع، مستخدماً “لو”. الشرط المستحيل وقوعه هو شرط غير قابل للتحقُّق؛ “لو نفخنا كلنا لم يدم بناء مشيد”: يستحيل النفخ ولهذا يستحيل الهدم، و”لو صرخنا كلنا زمجر الفضاء وأرعد”: يستحيل الصراخ جميعاً، و”لو بكينا كلنا ماجت السيول على اللد”: يستحيل البكاء جميعاً. غرض التكرار إحداثُ ردة فعل لدى الجمهور تجاه الجرائم الصهيونية، ردة الفعل تعني أمراً واحداً؛ مقاومة الاحتلال والقضاء عليه، وهو الهدف النهائي الذي سعى الشاعر للوصول إليه. تطرح القصيدة في ختامها استفهاماً إنكاريًّا؛ هدفت من ورائه إلى كشف المتخاذلين عن نصرة القضية الفلسطينية، والداعين إلى إنهائها عبر الاستسلام وعقد الصفقات، بهدف الضغط عليهم؛ ليعودوا إلى صف المقاومة: “قد فهمنا.. تهوَّد البعض منّا أولم يبق معشر ما تهود؟” قرأ الشاعر غازي القصيبي المشهد الفلسطيني في شموليته وارتباطه بالمشهدين العربي والعالمي؛ فما يحدث في فلسطين يؤثر على العالم، حيث الفلسطينيون ليسوا مجرد أرقام، وإنما شعب مضطهد ومطارد، يسعى إلى نيل حقوقه المشروعة، وهو ما ينبغي على الجميع مساندته والوقوف معه.