محمد يعقوب في { ما لا يُنْسَى . . ما لا يَمُـرُّ } ..
ذاكرة شعرية للإنسان والمكان في منطقة جازان.
( يعود الماضي فقط عندما يتدفق الحاضر بانسيابية كبيرة ، فكأنه السطح المنزلق لنهر عميق ، عندها يرى المرء عبر السطح إلى الأعماق . وأنا أجدُ في هذه اللحظات بعضاً من أعظم حالات إحساسي بالرضا ، وهي ناجمة ، ليس من تفكيري بالماضي ، ولكن من حقيقة أنني عندها فقط أحيا الحاضر بامتلاء تام ؛ لأنَّ الحاضر عندما يدعمه الماضي يكون أعمق ألف مرة من الحاضر الذي يضغط علينا لحد لا يسمح لنا بالشعور بأي شيء آخر ، أي عندما يصل فيلم الكاميرا إلى العين فقط ) فرجينيا وولف • يتعجب القارئ المتتبع لإنتاج الشاعر الأستاذ محمد يعقوب من عدم الذكر والاحتفاء بالمكانية الجازانية في الإصدارات الأولى ، وقد يذهب الراصد المدقق لمساقات الشاعر المبدع دوماً أنه يتقصّدُ ذلك تحاشياً السقوط في فخاخ النظمية ، وتلافياً الوقوع في الإنشائية الشعرية ، ويجدُ المثقف في ذلك اعتذاراً فنياً مقبولاً ، ولكن الصدمة تكاد تبهتنا إذ الشاعر الكبير قد خالف الظنَّ السائد فيه وفاجأنا جميعاً بالإبداع الشعري الموسوم ب( ما لا يُنْسى . . ما لا يَمرُّ ) ، وقد صدَّره بنص اعتذاري بعنوان ( لأنَّك الشعر ) في فاتحة الديوان تأكيداً على علو المكانية الجازانية في رصيده المختزن منذ فترة : أدري تأخرتُ .. لا ميلاً ولا عتبا كنتُ انتظاراً على الأبواب مُنْتَهَبا العاشقون كثيرٌ .. كان بي حَرَجٌ فكيفَ أَكشفُ عن مولاتي الحُجُبا جازان يا سُمْرتي الأولى ، تهزُّ دمي شمسُ الكنايات كي تسّاقطي رُطَبا (لأنّك الشعر ) منذ البَدء كنتُ أرى طفلاً يَخُطُّ على جدرانهِ شَغَبا (لأنَّك الشعرُ) يا جازانُ ما انكشَفَتْ محارةُ القلب إلا لؤلؤاً طربا . مثل هذا الإبداع كان الشاعر يغيّبه ويخفيه عن أعيننا جميعا منذ سنين ، وأسرَّ هذا الإنتاج المعتّق لكل شبر من المكانية الجازانية كافة، وليس حصراً على جيزان المدينة ، ثُم أفاض به على المتلقين بإنتاج مثل العسل الجبلي لترتشفه عموم المنطقة ، في إبداع شعري لامس به شغاف القلوب قبل شعاف الجبال ، و أبحر في أرخبيل جزر المنطقة فأسمعنا أعذب الأنغام من البحور الشعرية ، وبسط فنه الشعري على سهول المحافظات فجاء بالسهل الممتع ، يتكئ الديوان على الذاكرة الثقافية المبتنية على تواشج الصلات بين المكانية ومكوناتها الشخصية التي غدت رموزاً للمنطقة وقيمة ثقافية وموروثاً رمزيا لجازان يعرف المكان بها ، وتلتصق أعلاماً في المكان ، فالشاعر محمد بن علي السنوسي ،شاعر الجنوب ، تسري روحه الإنسانية في حارات ودروب جيزان المدينة ، وجازان المنطقة مثلما تسري قصائده : أنتِ ما أنتِ . . تاريخٌ ندوِّنه على المهابة مروِّياً و مُنْتخَبا روحُ السنوسي إنسانيةٌ نقشَتْ على القصائد من أبياتها ذَهَبَا . وفي محافظة ضمد يبرز العلامة الشاعر المؤرخ الحسن بن أحمد عاكش الضمدي وسماً رمزياً للمحافظة ، يتشارك وأهلها المكانية والقيمة الثقافية العالية في نص ( مسرى المجيدين ) : أيا ضمد المجد.. الحكايا كثيرةٌ وعَاكِشُ من أنواركِ الغُرِّ يُبدعُ ولم تُغْلق البابَ المشَرَّع هدْأةٌ فبابكِ يا مَسْرى المجيدين مُشْرعُ . وأما في محافظة صبيا ، فالرمز الكبير هو الأمير الشاعر القاسم بن علي الذروي : جئتُ يا صبيا اعترافاً فاغفري كلُّ أخطائي ، وهاتِ العتبا جئتُ ظمآناً وما من عاشق فاض عنه الشوق إلا انسكبا عتَّق الذروي نخبا أولا مَنْ لصَبٍّ هاجَهُ الصَّبَا . وأما في محافظة فرسان ، وهي أرخبيل من الجزر ، فيشعُّ فيها رمزها ذو الألق الإبداعي المتعدد والممتع ، ومازالت أعماله الإبداعية تترى في توالٍ متواصل ، فحينما نسمع بذكر فرسان فإننا حتماً محاطون بخيال آتٍ من مشهدية مبدعها الكبير الأديب إبراهيم مفتاح : ما زلتُ أذكرُ نخلَ الله مبتعداً عن البيوت التي في البال لم تزلِ أجل كبرتُ .. ولكن هالني رجُلٌ من السماء يربي فكرة الأملِ مفتاح .. والشعر أوهامٌ مقدسةٌ في طلعة البدر ما يغنيك عن زُحلِ . إنَّ انتزاع المألوفية يتمُّ عبر حجب الإدراكات الحسية المباشرة والآلية للمكان المعتاد فيتبدى في حلة جديدة أكثر انجذاباً وأقرب أنسنة للمتلقين ، ويتحول العالم الخارجي إلى مشهدية ممتلئة بأحداث ومتخمة بشجون غير محسوسة سابقاً ، ويعمل النص على إعادة التدوير للبيئة المكانية من القار الثابث إلى مكان مستحدث غير معهود في الأذهان والخيال ، ففي نص يتحدث عن أنسنة المكان (أبو عريش ) : أقول : أبوعريش ، كلُّ صَبٍّ يخفُّ به التعلل أو يريحُ لمفرق رأسها أوقفتُ عمري وبي غيمٌ كثيفٌ لا يطيحُ . وفي نص آخر يتذكر محافظة صامطة و يتحدث عن وادي ( تَعْشر ) في محافظة الطوال فيقول : و(صامطة ) في العلم أسٌّ .. وأهلها رؤوس جبالٍ إنْ ذكرتَ الرواسيا تَفيضُ قراها نخوةً وفصاحة وماءً يشقُّ الصخر عذْباً وصافيا وقفْ بي على النأي الممضِ بتَعْشَرٍ لأملأ من سحر (الطوال) فؤاديا . وحينما تُذكر المكانية فإننا نتذكر غاستون باشلار المثأثر بشدة بدراساته عن الفضاء وعن شاعرية المكان وجماليته ، وخاصة عندما تنشأ علاقات متبادلة بين المكانية والأفراد والجماعات ، و ما يطرأ من تحالف وارتباط ثقافي بين الشخص المحب والمكانية الأليفة ، وسيحاول المبدعون تشكيل العلاقات وتداولها نصاً شعرياً ، كما في حالة وادي (خُلب ) في محافظة الأحد : ضَجَّ بي شوقٌ لوادي خُلبِ فانتهبتُ الأرضَ عن مُنْتَهَبِ خُلَبٌ والعمرُ عُتْبى كلُّهُ كيف تُخفي لذةً في العتَبِ . وفي الحديث عن تاريخية درب النجا وجبل عكّاد في محافظة الدرب حيث يقول : يا عالقاً في الأغاني . . الدربُ ذاكرةٌ ليستْ تعيش إذا لم تسكن الشَّغَفَا وقد أطلَّ ( عكاد ) في تبتّله لم تلمس (الدرب ) إلا عاشقاً كلفا . يقول باشلار في خلاصة دراسته القيمة عن المكانية : ( إنها تبحث في تحديد القيمة الإنسانية لأنواع المكان الذي يمكننا الإمساك به ، والذي يمكن الدفاع عنه ضد القوى المعادية ، أي المكان الذي نحب ، وهو مكان مُمتَدحٌ لأسباب متعددة مع الأخذ بالاعتبار الفروق المتضمنة في الفروق الشعرية ، ويرتبط بقيمة الحماية التي يمتلكها المكان والتي يمكن أن تكون قيمة إيجابية ، قيم متخيلة سريعاً ما تصبح هي هي القيم المسيطرة ) ، فنص ( كأمّ لم تنم إلا قليلا ) يتحدث عن القلعة الدوسرية المعروفة مَعلمَاً في مدينة جيزان فيقول متذكراً أمر الملك عبدالعزيز ،رحمه الله تعالى ، ببنائها وتشييدها : جلالٌ .. لا يُمسُّ ولا يُجارى وحصنٌ علَّق الذكرى إطارا تطلُّ ( الدوسرية ) في هدوء على البحر الذي استلقى مرارا كأمٍّ .. لم تنم إلا قليلاً وعاشتْ عمرها ترعى الحيارى وتدنو .. والمسافة ليس تكفي وتحنو والوجوه شجى توارى تفكِّر في الحنين ولا تُغَنِّي تخاف الشوق ينهمر انهمارا تلا ( عبدالعزيز ) على هواها كتاب المجد عزّا واقتدارا ومرر في ملامحها اعتزازا وعن أبراجها كشف الستارا . وفي نص ( غيمةٌ تهطل شعرا ) يتحدث عن محافظة فيفا المشهورة تاريخياً وسياحياً ، ذات الطبيعة الزراعية الخاصة : فيفاء والعشاق حولك قد رأوا فيك الجمال قصيدة فتغزلوا فيفاء .. متكأ النجوم تلفَّتي أنا نهب حُمَّاك التي تتمثلُ . وفي نص ( أعالي الضوء ) الذي يتحدث عن محافظة الداير المشتهرة بزراعة البن الخولاني في جبالها ومدرجاتها الزراعية ، والتي فيها يقام مهرجان البن سنوياً ، فيقول : هي ما يقول البنُّ : لا تتورطوا فالحب أسئلة بغير جوابِ الداير اتكأت جمالاً كاملاً وجبالها لغة الهوى المنسابِ . ولم يغب عن الديوان التطلعات المستقبلية وخاصة في محافظة بيش وما فيها من معالم بيئية وجغرافية وتحديداً المدينة الصناعية ، وهي تضم مشاريع حيوية أهمها مصفاة البترول والكثير من مصانع المعادن والغاز وغيرها : كن جريئاً . . فجر الصناعة بادٍ إنَّ معنى الحياة أن نستفيقا ثَمَّ حُلمٌ هنا يشفُ تماما عن غدٍ كان بالمكان خليقا . لعل أجمل ختام هنا هو ثيمة الفلّ والكادي وسائر النباتات العطرية وغير العطرية التي كثيراً ما ركزت عليها النصوص ، فالذاكرة الوجدانية تجلت وبعمق في استحضارها في سياقات وارتباطات من الحالات العاطفية ، وخاصة عندما تكون بارزة ومفصلية ، فالذاكرة هنا في اشتغال على إعادة إحياء شذا التجارب مما يؤدي إلى إيقاظ المشاعر القديمة المرتبطة بتلك التجارب : وكيف يبتلُّ في روحين مثل ندى وكيف ينفذ للأسرار والحجُبِ يا فلُّ ما العمر إلا ليلة ذهبتْ ولم تعد . . هكذا الأعمار للسلبِ ملأتَ للناس كاساتٍ معتّقة وأنت تظمأُ والكاسات لم تُجبِ آثرتَ يا فلُّ أنْ تُجْنى بلا نَدَم وتقرأُ الحبَّ للدنيا ولستَ نبي •