تأتي الكتابة السِيرية في الوعي الإنساني بوصفها عملاً أدبيّا يرتكز على استجلاب الحديث من الذاكرة، لتنهض بقراءة التحولات التي مرّت بها الذات، وبمكاشفة ضمنية لصورتها التي تفتّقت عبر تجارب وأحداث ساهمت في بلورتها وكينونتها. وحينما يمتاح الأديب من مداد الذاكرة، وسنيّ الطفولة، ومرارة اليتم؛ فإن الحديث يكون ممزوجا برائحة الحنين، وبريق الإصرار، ومغالبة السنين؛ ليقرأ من خلالها تاريخ الذات بصورة أعمق، ورؤية واعية، بوصفه شاهدا على مرحلة لم يبق منها سوى ما تجسّد ونُقش في ذاكرته، ليقارب نوعا من أنواع الخلود للذات وديمومتها في الذاكرة الإنسانية. في هذا السياق يأتي كتاب “ ذكريات مسيرة حياتي” للأستاذ على أحمد الحفظي -حفظه الله- الذي صدر عن مطابع جازان عام 1443ه، وهو كتاب مكون من ستين صفحة تقريبا، وقد جاء في ستة محاور، وهي: مرحلة الطفولة، مرحلة الدراسة الابتدائية، مرحلة الدراسة المتوسطة، مرحلة الدراسة في معهد المعلمين، مرحلة الحياة العملية، مرحلة التقاعد المبكر، وفي جنبات هذه المراحل جاءت بعض الصور الفوتوغرافية؛ لتوثق إنسان المرحلة، أو المكان ومسرح الذات الذي عايشه. وفي محاولة لقراءة هذا الكتاب فإنّ أول ما يشدّ القارئ هو اختزاله لمرحلة كبيرة من الزمن في عدد من الصفحات لا تتجاوز الستين صفحة، والتي لا شك أنها – أي تلك المرحلة الزمنية- كانت حافلة بالكثير من الأحداث والتحولات، سواء على صعيد الوعي بالذات والكينونة، أو على مستوى تحولات المكان وتطوره، وليته أفسح المجال، وأعطى حيزا أكبر للحديث عن ذاته في سياق التجاوز والكينونة المتفردة، سيما وهي تمتلك الإرادة والرؤية للتجاوز، مما يجعل المتلقي يتشوق للمعرفة أكثر عن تلك الحقبة الزمنية، ورؤية الكاتب تجاهها، يقول في الصفحة السادسة أيام الطفولة “ في يوم من الأيام رجعت إلى أمي وطلبت منها أكون مع الطلاب فقالت أنت لا زلت صغيرا...” إنّ هذا الحديث عن الذات في تلك المرحلة أو مرحلة الطفولة ينمّ عن ذات متشوقة تبحث عن كينونة أفضل تتجاوز راهنها إلى أفق مغاير، أو لنقل إنه حديث عن رؤية الذات المتطلعة، لكن الكاتب لم يسترسل في هذا السياق الذي يعطي الذات خصوصية أكثر؛ وانشغل بالجانب التوثيقي للذات والمكان دون إعطاء خوالج النفس وبوحها حيزا أكثر. ويمكن قراءة هذا التوثيق لحديث الذات وإردافه بالصورة الفوتوغرافية في الصفحة المجانبة سواء لذات الكاتب أو للمكان؛ أنه محاولة لتأطير وتوثيق العرى بين صورة الذات والمكان الذي شقت الذات طريق الحياة من خلاله، مما يفسح المجال للجانب التأويلي و السيميائي لقراءة المكان والإنسان من خلال الأبعاد الجمالية والنفسية. والكتاب في جملته يرتكز على ثيمة جوهرية قد تكون هي أبرز ما يميزه، وهي ارتكازه على الحسّ التاريخي والتوثيقي ، إذ دوّن في ثنايا الكتاب أسماء بعض القرى والهجر والمواقع الجغرافية في محايل عسير، وذكر المناخ العام لبديات الحركة التعليمية حينما التعليم في المسجد الجامع في حيّ الربوع بمحايل، وكذلك وثق سبل المواصلات من محايل إلى جدة، ومن المظيلف إلى القنفذة، إذ كان التعليم في محايل تابعًا للقنفذة بسبب وعورة الطريق إلى أبها. إنّ مرحلة الدراسة، والعمل الحكومي هي الإطار العام الذي تنبثق من خلاله هذه الذكريات للأستاذ على الحفظي – حفظه الله- وإذا ما تمّت قراءة هذه الذكريات وفق العنوان وهو الميثاق بين القارئ والكاتب فإننا نلحظ اختزالا لمرحلة كبيرة في ثوبٍ فضفاض، وهذا لا يشوب من جماليات العمل وأبعاده التاريخية، فهو من بواكير الأعمال الأدبية في كتابة السيرة الذاتية بمحايل عسير، تجلى فيه المنزع التوثيقي وسطوة القارئ الضمني.