قراءة في ديوان الشاعر معبر النهاري (على استحياء)..

شمولية الانتماء وكليّة التوجّه بين قدسية العشق وروحانيّة الوجد.

حفل الشعر العربي القديم والحديث بالكثير من الأشعار في مديح الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولعل من أشهرها المجموعة النبهانية، وهي من أوائل المختارات الشعرية في المديح النبوي، والديوان الذي بين يديّ يتميّز عن المدائح التقليديّة بوحدته وشموليّته، فهو يحيط بما يختصّ بشخص نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) وآل بيته الكرام، و مدينته المنوّرة وفضائها العابق بروحانيّة ثريّة، وبما يتصل بالوجدان الذاتي وحميميّة الصلة بين حرارة التواصل مع عبق النبوّة فضاءً مكانيّا و زمانيّاً ؛ فهو منذ القصيدة الأولى يلفتنا فيها شمولية الانتماء وكليّة التوجه وعمق المحبة التي تصل إلى مرتبة العشق الصوفي والفناء الوجداني ؛ فقد استقصى الشاعر كل أصناف المريدين المتوجهين بقلوبهم إلى مدينة النورابتغاء شرف الزيارة للحبيب المصطفى، وقد وصفهم بالظّماء واختار لهذه القصيدة هذا العنوان (الظّماء) وحشد فيها مايزيد على ثلاثين وصفاً للتوّاقين إلى زيارته بأوصاف جامعة شاملة في زخم يعزّز شعريّة القصيدة من خلال الانزياح المتعمّد عن المألوف في الوصف على الحقيقة و المجاز، والإيحاء باستلهام بعض خصائص النهج القرآني في التعبير وعبر التداعيات الإيقاعيّة باستثمار الصيغ الإيقاعيّة لتفعيلة الكامل ؛ وليس من شك في أن هذا الكم من الثراء الدلالي من الخصائص الأسلوبيّة التي تميّز النهج التعبيريّ في القصيدة. ولعل اللافت في هذا الديوان استثمار المدخل العقدي للولوج إلى أبعاد عميقة تلامس أغوار التواصل الروحي مع مايمثّله المقام النبوي، ففي قصيدته (فتوى) يعمد إلى التماس التأصيل الشرعي الذي ينأى عن النهج الغنوصي (الصوفي) التقليدي فيما يتعلق بالمديح النبوي محتفظاً بشرعيّة التعلّق بقدسية المقام النبوي، وهي لفتة ذكية تُشرعن هذا العشق العميق (كل المذاهب أفتتني لأهواكا) فقد تردّدت مفردة (هواك) كثيراً، وجاء الخطاب موجّهاً في لهجة المحب للمقام النبوي بكثافة ملحوظة، واكتظّت القصيدة بحقول النور والوحي والتعبّد والعشق والمثوى (القبر) قاموساً شعريّا على سبيل المجاز و الحقيقة، وهو معجم روحيّ بالغ الدلالة . مازال جبريل عند القبر متكئاً يرنو إليك وعين الله ترعاكا مرّو عليك وهم للآن ما انتبهوا بأن حبك في روحي ومثواكا ثمة مسالك متعددة للتعبير عن الحب المتجذّر في القلوب، فقد استنفد الخطاب وفرغ إناء المناقب، وتم التحليق في فضاء الروح إلى أجواز الفضاء فكان أن التفت الشاعر إلى أمداء الجيرة وقرابة القربى فاستنطق الجبل وخاطب الصخر والحجر، والتمس عبق الحبيب في الجبل الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم (إنه يحبنا ونحبه) فكان أن أفرد له قصيدة من عيون الشعر ليشركه في فائض الحب وجميل العشق (الجبل العاشق) فتماهى فيه وتقنّع بقناعه واستمطر عبقه وأريج ذكرياته، مستهلّا له بمفارقة مُعجبة، ومقابلة مُبهجة (الشباب و المشيب) الزمان و المكان الجبل الأشمّ و الزمن الغابر، في تشخيص حي ّ (ملاعب الصبا وشيب الذوائب) لقد صاغ من تضاريس الكون ومعالم المكان لوحة شاهدة على البقاء وتحدي الزمان نصباً شامخاً لمحبةٍ باقية : لوحة فنية ملوّنة بألوان قوس قزح : سلسلة من المتقابلات الاستعارية : شيب الذوائب وملاعب الصبا وخدّ الشمس ودمع الغيم وثالثهما هذا الجبل الشامخ الذي يتوسّد الخد و يمسح الدمع في حركة حانية يشتعل بها الوجد والوجدان، وتكتمل اللوحة بما يصطفيه من عناصر الطبيعة الأرضية (النخيل والريح) في لقاء حميم بين السماء والأرض توسّد خدّ الشمس في كل خطرة وتمسح جفن العين إن سحّ غاربه توكّأت هام النخل ما زلت عاشقا تقبل طلعا زاد بالهجر لاهبه تنثال المشاهد متداعية في تحدُّرٍ وإيقاع متسارع ترصد حركة الأكوان متجاوبة مع ما يدخره هذا المَعلم من قدسية في وصف يلتقط بعدسته الشاعرة ما يشي بجيشان المشاعر ويتفاعل مع لهيب العواطف، صور فنيّة مشهديّة ولوحات بديعة الإتقان تستدرّالجمال من أخلاف الكون والكائنات في مجازات حافلة ومفردات مضيئة، متدرّجة من الكونيّة إلى الطبعييّة إلى المكانيّة متشبثاً بأهداب قدسيّة تصل الظواهر كلها بالمثوى الذي يضم الرفات الطاهرة، مستثمرا الطاقة الحركية التي تنطوي عليها سلسلة الأفعال المضارعة التي يستهلّ بها كل بيت من أبياته المتعاقبة : توسّد تهدهد تهندس تمدّ وتصغي، وذلك فضلا عن أساليب النداء المتكرّرة، وهي نداء للبعيد يقصد به القريب في عدول مقصود وانزياح ينسجم مع الأسلوب المجازيّ الاستعاريّ الذي يتقمّص الكائنات والأكوان . ومن تجليات الرؤى في شعريّة القصيد في هذا الديوان التماهي بين المدينة وفاطمة الزهراء التي نعتتها بخاتم الفاطمات في تيمّن بها مستثمراً المطلع التقليدي في القصيدة العربية عبر ما عرف بالتجريد(خطاب الآخر) فهو يخاطب صاحبيه مستوحياً تلك الحمولة الدلاليّة الوجدانيّة التي اكتسبها هذا اللون من المطالع (طوفا بي) مستبدلاً بـ(عوجا) الجاهلية بشعيرة الطواف الإسلامية (طوفا بي) في لون من ألوان التناص مقترناً بالآخر الذي يحمل شرف الانتساب إلى الرسول (عليه الصلاة و السلام) مع ما يزيّنها من هالة ؛ حيث يتقاطع البعد الاحتفالي مع البعد الروحاني الشموع والحركة في تشكيلة جماليّة مهيبة تجمع بين (التجريد) والتماهي والاستدعاء للرموز الفنيّة العريقة في ارتباطها التراثيّ والأيقونيّ المقامات والرواشين والطلب الوجداني في عناقه للأماني التعبيريّة المتخيّلة (اسكباني واتركاني أذوب وجداً) والتشخيص الذي جعل فيه المدينة صنو فاطمة الزهراء، وهذا التواصل الجمالي بين الظواهر الطبيعية و البشرية والتضاريس والملامح الانسانيّة مستحضرً عبارات ومفردات خُصّت بها المدينة المنورة في المأثور من التراث الديني (لابتيها) فقد عمد إلى تخصيب النص بجملة من الاستدعاءات ذات الطابع الوجدانيّ الجماليّ في ألوان من البديع الجناسيّ اللغويّ الأنثويّ : فطمتني عنها بها ممكنات تصلب المستحيل في مقلتيها يتهجّى الفؤاد ما عتقته خابيات النخيل في لابتيها وقد تعالقت في صوره المتقابلات والمتناقضات: العقل و الجنون في صياغة مفارقة وانزياح دلاليٍّ، وتشابكت الظواهر الكونيّة و الطبيعيّة في تشكيلة جماليّة موحية تتجاوز التقليد وتحلّق في أجواز المعنى الذي يتخطّى المعروف والمألوف . ثمة تنوّع في الخطاب، فمن التجريد إلى التحديد، خطاب المكان حيث تتألّق الشواهد وتتأجّج المشاعر وتُبث الحياة في المكان فتتحوّل المدينة إلى معشوقة وتنبعث الحياة في الأشياء والأحياء تتدفّق الحياة في عروق الشجر والحجر فيبثّها الهموم، وتتبدّى العلاقة حميميّة مفعمة بالشوق، مهوىً للفؤاد وفرجاً للهموم ؛ ففي قصيدته (مرايا الجوار) يخاطب الشاعر المدينة المنورة مذكّرا بماضيها وكيف أصبحت بعد أن أمّها النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد عمد إلى التأمل العميق في لفظ المدينة بعد أن تحوّلت في كل جانب من جوانبها إلى وهج من قدسيةٍ ونور فجاءت الشعريّة منسجمة مع الرؤية، وجاء الانزياح عبرتأويل المعنى وتوسيع الدلالة والانسجام مع العشق، ما يجعل الكثافة الروحية تتلبس الحروف والكلمات، فثمة تقاطع بين الوجدان الداخلي والتجربة الذاتية، وبين اللفظ والمبنى اللغوي الذي يتشكل منه المعنى: خلق النور بين ميمين ظلّا وإذا الحاء حظوة من نعيم وإذا الدال درة تتجلى وسل الجذع كيف صار درة تتدلى نابضاً بالشجون لما استقلا وقد عمد الشاعر إلى تشكيل الفضاء الكتابي ليوحي بحركيّة الوجدان وشدّة التعلق بالمكان، واستحضر التاريخ ووظّف الحدث ليثري النّص الشعريّ بما يعزز البعد العاطفي ويجعله مُدعّما بالشواهد فيتقاطع المنطق مع الوجد ؛ فاستدعى قصة أم معبد و ما نالها من بركة وخير، وقرن المشهد المنصرم إلى الحاضر الماثل في انثيالات تتدفّق في لحظة بالغة الثراء . وعلى هذا النحو من التعبير الذي يمتح من ينابيع عدّة في الزمان والمكان والسياقات المتداخلة والمتجاورة تنداح جماليات الشعر على نحو ما نرى في قصيدته (وقفة على أعتاب السماء) يلتقي القطبان الكونيان فتشدو الروح وتمرح القريحة الشاعرة في هذا الفضاء الرحب، تفرد جناحيها شاديةً في غنائيةٍ صافية ؛ فإذا بنور النبوة ساطع متألّق بين منارتين يفيض نورهما على الوجود كله ؛فإذا المدينة المنورة تنعقد أواصرها بالسماء فتزداد ألقا وتتحوّل إلى روضة تشع بنور النبوة ؛ وهنا يستثمر ما ورد على لسان الرسول صلى الله علية وسلم (ما بين قبري و منبري روضة من رياض الجنّة ) ويستمطر الشاعر دموع الوجد في حضرة المصطفى، ويستغرق في لحظة روحيّة عميقة، مُستدنيا الذكرى في حشدٍ لمعالم المكان الذي يكتظّ بالذكريات النبوية العطرة، من الحرم النبوي (الأيقونة) إلى العقيق الرمز المحتشد بعبق المكان. وتقترن الأمكنة بالرموز الروحيّة الكبري متنقّلاً بين الملأ الأعلى متألقا بنور الكتاب العزيز والوحي القدسي جبريل عليه السلام في لقاء روحي حميم بين هذه المعالم الكبرى، وقد اتخذ من هذا اللقاء منهجاً وسبيلاً يقود المتلقي إلى آفاق سامقة عابقة بشذى الروح ومُفعمة بأجواء العشق القدسي. والديوان يأسرك بمذخورٍ روحيٍّ هائل، وبتنقل بك بين مساحات وجدانية شاسعة، تتشكل شعريّته من حميميّة غزيرة وتعلّق صادق، ولعل حشد هذا الكم من القصائد في ديوان مخصّص للشدو بعواطف المحبة التي تتجاوز المديح إلى الاندماج التام في نورانيّة ساطعة دليل على صدق المشاعر وألق الحب و الحنين، ولعل فرصة أخرى تتاح لمزيد من القول حول هذه الشعلة الوجدانية في هذا الديوان.