التعاونيات بين المُسَرِّعات والمُوْهِنات 3/3
في الجزء الأول من مقالة “ التعاونيات بين المُسَرِّعات والمُوْهِنات 1/3” الذي تم نشره في “مجلة اليمامة -الغراء” بتاريخ 23 نوفمبر 2023م. سَلَّطْتُ الضوءَ على الوضع الراهن للقطاع التعاوني على نطاقٍ دولي. وفي الجزء الثاني من “المقالة” المنشور في نفس “المجلة” بتاريخ 30 نوفمبر 2023م. استعرضت سَبعًا من مُسَرِّعات ماكينة “القطاع التعاوني” الكفيلة بدفعه قُدُمًا نحو الأمام. وفي هذا الجزء – الثالث – من “المقالة” سوف أحشر سبع المُوِهِنات للعمل التعاوني، التي تأكل >سبع المُسَرِّعات< تلكم >المُوْهِتات< التي تسببت في الماضي، ولا تزال تتسبب بإضعاف حيوية هذا القطاع الهام، وتُسْهِم بإبطاء حركته، وتنخر في عوده الطري، ولا تبرح جسمه الهزيل، حتى يلفظ أنفاسَهُ الأخيرة، بصورة مخيبة لآمال الطبقات المتوسطة والصغيرة، ومبددة لطموحاتهم الكبيرة بمستقبل مستقر، ومحطمة لأحلامهم الواسعة بعيش كريم. بما يُشَكِّل مصدر إزعاج للجهات المُشْرِفَة. وعندما تضع الحربُ أوزارَها، َيُقْبِلُ بعض - أصحاب المصلحة، وذوي العلاقة – على بعضٍ يتلاومون. دون أن يُدْرِك كل طرفٍ مسؤوليته المباشرة أو غير المباشرة – عن الانكسارات التي شهدتها، وتشهدها كثير من “التعاونيات” في العالم العربي. يأتي في مقدمة مُوْهِنات العمل التعاوني >محدودية الموارد المالية، والبشرية، والتقنية< فمن ناحية محدودية الموارد المالية، فإن كثير من “التعاونيات” تُؤَسَّسُ برأس مال ضعيف – نسبيًا - لا يخولها الانطلاق بقوة كافية، ولا التحرك بكفاءة عالية، وغالبًا ما يُسْتَنْزَف رأس المال البسيط خلال السنتين الأولى والثانية من عمر “التعاونية” لدفع مرتبات وأجور العاملين، وإيجارات العقارات، ولتغطية المصروفات التشغيلية، إضافة إلى سداد الرسوم والضرائب الحكومية - وبتوضيح أكثر سوداوية - إن “التعاونية” التي تؤسس في مثل هذه الظروف، تولد كسيحة غير قادرة على النمو، وتكون عرضة للموت المبكر في مرحلة الحضانة. وفي المقابل، ولكون “التعاونيات” يؤسِّسُها عَدَدٌ محدود بالعشرات، وقد يكونون بالمئات، من ذوي القدرات المالية المتواضعة، فإن من الخطأ - المبدئي - اشتراط رأس مال كبير يُدفع من قِبَل المؤسسين – المحدودين عَدَدًا وعُدَّة - لماذا؟ لأنهم في الأساس أصحاب إمكانات مالية محدودة، لاسيما أن هدفهم – الرئيس - من تأسيس “التعاونية” هو تحسين أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية. وهنا نقف أمام مفترق طرق، كل منها لا يوصل إلى وجهة مأمونة، هل نسمح بتأسيس “تعاونيات” هزيلة، غير قادرة على النمو، وغير مؤهلة للنجاح؟ أم نشترط على المؤسسين – وحدهم - تدبير رأس مال كبير “للتعاونية”؟ وهم غير قادرين على ذلك، وفي أي من الحالتين لن تولد “التعاونيات” التي هي في الأساس ضرورة حتمية، ومؤسسات مجتمعية بالغة الأهمية، لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المتوسطة والصغيرة من المجتمع. وليست كيانات هامشية كما يتصورها البعض. وهنا يأتي الدور الوظيفي للحكومات، والاتحادات/ المجالس التعاونية العامة، لتتبنى – أي منها، أو بالتعاون بينها - تطوير منصات تقنية تساعد على فتح باب المساهمة أمام أكبر عدد من الراغبين بعضوية “التعاونيات”. كما إن لمحدودية الموارد البشرية، التي تتمخض عن محدودية الموارد المالية آثارٌ بالغة، ومؤثرة على حيوية “التعاونيات” يأتي في مقدمتها عبء العمل الذي سيتحمله أعضاء مجالس الإدارات، وأحيانًا اثنان أو ثلاثة منهم فقط، وهم في الأساس غير متفرغين للعمل اليومي في “التعاونية” ولا يحصلون على تعويض مباشر عن أتعابهم. وهنا تجد “التعاونية” صعوبة في إنجاز الأعمال في الآجال المثالية، وإكمال المشاريع، وتقديم المنتجات والخدمات في المواعيد المحددة، وبالتالي يتم إهمال كثير من المهام والوظائف، أو يجري أداؤها على نحوٍ غير كُفءٍ. وما يقال عن محدودية الموارد البشرية يقال – مثله - عن محدودية الموارد التقنية، التي تُفْضِي إلى تكثيف العبء على الموارد البشرية المحدودة، مما يؤدي إلى إضعاف الإنتاجية وتدني الكفاءة داخل “التعاونية”. ومن مُوْهِنات “التعاونيات” > ضُعْف القدرة على الوصول إلى الأسواق الداخلية والخارجية< ولهذا >المُوْهِن< آثارٌ عديدة على “التعاونيات” منها تقييد قدرة “التعاونيات” على بيع منتجاتها وتسويق خدماتها بآلية منتظمة، مما يؤدي إلى انخفاض الإيرادات، وبالتالي ينعكس كل هذا – سلبًا – على أداء “التعاونية” وديمومتها. هناك مرض كامن، غير مرئي، وغير محسوس، لا ترى أعراضُه بالعين المجردة، لكن آثارَه تنعكس مباشرةً على كفاءة الأداء في “التعاونية” وهو أشبه بارتفاع الضغط الذي يصيب العين – الجلوكوما – إنه > ضبابية مصالح أعضاء مجالس الإدارات واللجان< فكثير من التعاونيين يظن أن عمل أعضاء مجالس الإدارات واللجان في “التعاونيات” يجب أن يكون تطوعيًّا، ولا أعلم من أي مرجع قانوني – مُعْتَمَد - اقتنصوا هذا المفهوم الخاطئ؟ ولا استبعد أن يكون هذا الاعتقاد المشتبه ناجم عن خطأ في ترجمة “المبدأ الأول للعمل في “التعاونيات” الذي اعتمده “الحلف التعاوني الدولي” والذي ينص على (العضوية الطوعية والمفتوحة) حيث أجْنَفَ البعضُ، وفَهِمَ أن (الطوعية) تعني (التطوعية) وهذا غير صحيح البتة. نعم بعض “القوانين/ الأنظمة التعاونية” خصصت نسبة معينة من صافي أرباح “التعاونية” تُصرف كمكافئات لأعضاء مجالس الإدارات، وهذا شيء جيد لكن هذا المُخَصَّص لم يُقَرَّر بدقة تامة لعدة أسباب منها: أن “التعاونيات” في الغالب الأعم، لا تحقق أرباحًا خلال السنوات الأولى من عمرها، أو اثناء تنفيذ مشاريع هيكلية، وقد تنتهي دورة “مجلس الإدارة” دون أن يستفيد “المجلس” من ثمرة جهده فتتآكل معنويات أعضائه، وبالتالي يضعف أداؤهم، ويتراجع عطاؤهم، فيقرروا عدم الترشح لدورات جديدة، ومن هنا تنشأ ظاهرة أخرى لا يقل أثرُها السلبي عن مُوهِن >الضبابية< تلكم هي ظاهرة التعاقب – الدراماتيكي - غير المنظم لمجالس الإدارات. مما يخلق قطيعة واسعة بين إنجازات كل دورة والدورات التي سبقتها. وهنا أُؤَكد على أهمية تثمين وقت أعضاء مجالس الإدارات، وأعضاء اللجان، وعلى ضرورة احتساب تعويض عادل لهم مقابل حضور الاجتماعات، أو لقاء القيام بأعمال تنفيذية، إضافة إلى ما يستحقونه من مكافئات من صافي أرباح “التعاونية” كي يكون ذلك حافزًا لهم لمضاعفة الجهود لتحقيق النجاح في “للتعاونية” على أن يكون كل ذلك مُعْتَمَدًا من “ الجمعية العامة للتعاونية”. لا شك أن > للانتقال المستمر لملكية أسهم التعاونية< آثارٌ إيجابية عليها، حيث يُسْهِم – ذلك – بزيادة رأس المال، واستقطاب أعضاء جُدُد، مما يسمح “للتعاونية” بالتوسع والتحديث والابتكار، ويعزز قدرتها التنافسية، ويُنَشِّط حيويتها في السوق. ويساعدها على كسب خبرات وأفكار نَيِّرة، ويمنحها طاقات متجددة. هذا من جانب، ومن جانب آخر يمكن أن يكون > للانتقال المستمر لملكية أسهم التعاونية< آثار سلبية على حيوية “التعاونيات” تبعا لكيفية إدارة الانتقال، والسياق الذي يحدث فيه. فمن الآثار السلبية > للانتقال المستمر لملكية أسهم التعاونية< فقدان القِيَم التعاونية لدى المساهمين - الجُدُد - الذين يَنْصَبُّ اِهْتِمَامُهم في المقام الأول على الربح المباشر للأسهم بدلًا من استهداف العوائد الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن تعاملهم مع “التعاونية” حيث تؤدي هذه النظرة الأحادية إلى إضعاف هُوِيَّة “التعاونية” وحرفها عن قيمها الأساسية. وأعرف “تعاونيات” عمرها أكثر من نصف قرن، نسبة كبيرة من أعضائها متوفون، مما يسبب إشكالات مالية “ للتعاونية” ويخلق صعوبات قوية أمام عقد اجتماعات الجمعيات العمومية. وما ينجم عن ذلك من تأخير مُمِلْ في عمليات صنع القرارات الاستراتيجية “للتعاونية” من هنا ينبغي “ للتعاونيات “ أن تُطَوِّر آليات حوكمة قوية، بما في ذلك معايير عضوية واضحة، خاصة للأشخاص الذين تؤول إليهم أسهم “التعاونية” بالإرث. هذا وإن >التعارض بين قانون / نظام التعاونيات، والقوانين / الأنظمة الأخرى< يتسبب في كثير من الأحيان، بتفويت الفُرصة أمام “التعاونيات” للاستفادة من المميزات والتسهيلات، وبرامج الدعم المقررة لها في القوانين/ الأنظمة التعاونية. وقد كان “لمجلس الجمعيات التعاونية” في “المملكة العربية السعودية” مبادرة رائدة لحصر نقاط التعارض بين “نظام الجمعيات التعاونية” وعدد من اللوائح المطبقة في جهات أخرى، وفي هذه المبادرة تم اقتراح صياغات مناسبة لتسوية هذه المتعارضات. - آهٍـ ثم آهٍـ ثم آهـ - من >المُوهِن< السابع، وأنا أشبهه بالنمل الأبيض الذي ينخر في جدران “التعاونيات” ويجعلها كَلَأً مستباحا، إنه > التشويش من طرف بعض أعضاء التعاونيات < بل إنه الحب القاتل، والحماس غير الموزون، وذلك عندما يمارس بعض الأعضاء دورهم الرقابي من خارج الأطُر النظامية “للتعاونية” بآليات ارتجالية، غير واعين للآثار الوخيمة لتلك المناكفات، بما يفضي – في أحيانٍ كثيرة - إلى الارتباك، ويتسبب بانهيار قنوات التواصل الفَعَّال. وغالبًا ما يحدث هذا في المجتمعات ذات النزعات الفردانية التي لا تتمتع بقدر كافِ من الثقة بين أفرادها، ولا تمتلك مستوًى عالٍ من الوعي المؤسسي في تصرفاتها. وعندما لا يكون لدى أصحاب المصلحة استيعاب دقيق لأهداف “التعاونية” أو فهم واضح لاستراتيجياتها، أو تصور عميق لعمليات صنع القرار فيها، يُصْبِح من العسير تنسيق الجهود، ويُمْسِي من الصعب مواءمة الإجراءات. كما أن سوء التواصل أو هشاشته، يؤدي إلى تأخر في الإنجاز وارتباك في الفهم، وضعف في الكفاءة داخل أروقة “التعاونية” وفي مثل هذه الأحوال ينبغي على قادة “التعاونية” التحلي بأقصى درجات الانضباط حيال الوشوشات، وتحاشي ردود الأفعال المتشنجة. قال “عنترة بن شداد العبسي”: (لا يَحْمِلُ الحِقْدَ من تعلو به الرُتَبُ... ولا ينال العُلا من طبعه الغضب) حقًا إن المشاحنات خارج أروقة “التعاونيات” والصراعات داخلها، تُقَوِّض الثقة بين أصحاب المصلحة، ومجالس الإدارات، مما يجعل من الصعب العمل معًا بفعالية مثمرة. إن “الديمقراطية في إدارة التعاونيات” كالفيتامينات إن زادت عن حدها انقلبت إلى ضدها. ولمعالجة هذه المشكلة أرى - من الأهمية بمكان - تكثيف اللقاءات الدورية بين مجالس الإدارات، وعموم أعضاء “التعاونيات” بما لا يقل عن لقاءين -عاديين - في السنة الواحدة، غير الاجتماعات المقررة بحكم “القانون/ النظام” - وذلك لتعزيز التواصل بين الطرفين وبالتالي غرس الثقة والاطمئنان، وتبديد الشكوك والأوهام، لدى أصحاب المصلحة. ما تم استعراضه آنفًا – في هذا الجزء – الثالث والأخير - من المقالة – يمثل أبرز سبع مُوهِنات “للتعاونيات” وليس حصرًا شاملًا لها، حيث إن هناك العديد من >الموهنات <الأخرى قد يكون منها > مُوْهِنات مؤَثِّرة < ولكن لا يتسع المقال لاستعراضها- جميعًا وعلى نحوٍ مُفَصَّل - وقد تسنح الفرصة لذلك مستقبلًا، أو قد يكون مكانها – الملائم - اللقاءات التوعوية المخصصة، أو المناسبات الإعلامية المباشرة.