ذات يوم، وفي بقعة من بقاع مكة المباركة، رفع النبي إبراهيم وابنه إسماعيل، عليهما السلام، قواعد البيت العتيق، ثم سألا ربهما سبحانه وتعالى أن يُعلمهما مناسك الحج، فاستجاب لهما. وكانت هذه الاستجابة الإلهية إيذاناً بأن يأتي الناس من كل فج عميق إلى الأراضي المقدسة، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معدودات، وظهرت بذلك واحدة من أعظم الشعائر الدينية على مر العصور، باتت فيما بعد أحد أركان الإسلام الخمسة. وعرفت الديانات الكبرى قبل ظهور الإسلام شعيرة الحج، بأشكال مختلفة. والدليل على ذلك أن كلمة «حج» من أصل غير عربي، فهي سامية الأصل، وتعني «القصد»، أي التوجه إلى مكان مقدس بغرض الزيارة أو التبرّك به. وفي كتابه «الإسلام والحضارة الإنسانية»، يقول عباس العقاد إن «الحج فريضة قديمة في الديانات الكبرى، وهو لم يوجد قط إلّا في ديانة كبيرة، لأنه يستلزم انتشار الديانة في أماكن متعددة، كما يستلزم قدمها وانتظام العمل بها في الأزمنة المتعاقبة عاماً بعد عام، أو موسماً بعد موسم. ولا يتهيأ هذا وذاك إلّا لديانة قد تأصلت في مكانها وزمانها. وأشهر الديانات القديمة التي وجدت فيها فريضة الحج اثنتان: ديانة البراهمة في آسيا الشرقية، وديانة بني إسرائيل في آسيا الغربية». يضيف العقاد: «ولقد طال بحث المؤرخين الغربيين عن أصول الحج إلى الكعبة قبل الإسلام، وتواترت الأقوال بتعدد الأبنية التي كانت من قبيلها في الجزيرة العربية، ومنها كعبة صنعاء التي يقال إنها كانت في موضع مسجد غمدان، وكعبة نجران التي كشفها الرحالة المعروف الشيخ عبد الله فليبي سنة 1936، وغير هاتين الكعبتيّن مما ورد في بعض الأخبار الضعاف بغير سند من دلائل الثقات». «مثابة» للناس وأمناً بعد عدة قرون من عهد النبي إبراهيم، عليه السلام، أدخل أهل الجاهلية على الحج كثيراً من البدع والضلالات، ما أنزل الله بها من سلطان، كما اصطلحوا على مُحدثات كثيرة، وتواضعوا عليها خلال الزمن القديم، حتى انحرف الناس بمرور السنين عن النهج الإبراهيمي الحنيف في الحج. وكان عرب الجاهلية يقدسون الكعبة المشرفة قبل ظهور الإسلام باعتبارها البيت الحرام. وشمل هذا التقديس أيضاً مكة بأكملها والمناطق المجاورة لها، التي كانوا يتوافدون إليها من أنحاء الجزيرة العربية في موسم الحج، فتشهد «أم القرى» نشاطا تجارياً وثقافياً لا مثيل له في أشهر السنة الأخرى. وتبعاً لذلك، أقامت قبيلة «قريش» مراكز تجارية حول الكعبة، كانت تستضيف الحجاج، ويُباع فيها الطعام والشراب والتماثيل، فضلاً عن نحر للحيوانات وبذل النذور والعطايا، ما أحدث حالة من الازدهار الاقتصادي أثارت غيرة القبائل الأخرى، فاتجهت إلى بناء «كعبات» خاصة بها، للحد من نفوذ مكة الديني والسياسي والاقتصادي. غير أنها فشلت في تحقيق هذا الهدف لحكمة لا يعلمها إلا الله، وهي ظهور الإسلام في هذه البقعة المباركة فيما بعد. ووفق الباحثين، استقطب وجود مكة، كمدينة تجارية كبيرة آنذاك، طوائف كبيرة من العرب وغيرهم إليها، فقد كان موقع مكة الجغرافي سبباً في أن يجعل من المدينة المقدسة «مثابة» للناس وأمناً، تتجمع فيها القوافل التي تأتي من جنوب الجزيرة العربية تريد الشام، أو القادمة من الشام تريد اليمن. ونجح القريشيّون منذ مطلع القرن السادس الميلادي، في احتكار التجارة في بلاد العرب، والسيطرة على طرق القوافل التي تربط اليمن بالشام من ناحية، وبالعراق من ناحية أخرى، الأمر الذي جعل الكعبة محطّ أنظار زوّارها جميعا، فاكتسبت مكة بُعداً دينياً رفيعاً، ومنزلة سامية، وساهم النشاط التجاري بها في تعظيم شعيرة الحج، فكانوا يقصدون مكة أفواجًا من كل مكان، كما كان بعض ملوك العرب القدامى يتقرّبون إلى «بيت الله» بالهدايا والنذور. ويقول الدكتور راغب السرجاني في كتابه «تشريعات العرب قبل الإسلام»، إن «أول مناسك الحج في الجاهلية كانت الطواف حول البيت العتيق، وكان بعض العرب يطوفون عرايا من دون ملابس، رجالاً ونساءً على السواء، فقد كانوا يكرهون أن يطوفوا مرتدين ثياباً عصوا الله فيها، فكانوا يخلعون ملابسهم، فإذا انتهوا من الطواف ارتدوها من جديد، ثم صنعت «قريش» ملابس مخصصة للحجاج، عبارة عن مآزر غير مخيطة، وكان من لا يقدر على شراء تلك المآزر يطوف عرياناً، وظلت تلك العادة الغريبة موجودة حتى فتح مكة، وحرمها النبي صلى الله عليه وسلم». من جهته، يوضح الباحث أحمد رمضان الديباوي، أن الحج عند الجاهليين كان زيارة وشدّ رحال إلى أماكن مقدسة مخصوصة، وسط مظاهر بهجة واحتفال، وفي أوقات مخصوصة كذلك. وبعد فراغ الناس من أداء الحج يكتمل لديهم الفرح والسرور. غير أن من الجاهليين من كان يحج حجاً صامتاً، أي من دون كلام، حيث لا ينطق الحاج طيلة أيام حجه ولو بكلمة واحدة. ويشير «الديباوي» إلى أن الذبائح أو الأضحية كانت تُعرف عند الجاهليين باسم «العتائر»، وكانوا ينحرونها عند الأصنام والأنصاب، ويوزعون لحومها على الحضور، وحتى الحيوانات كانت تأكل منها. وكانوا يحفظون ما فاض من تلك اللحوم بأن «يشرّقوها» في الشمس؛ أي يعرضونها لأشعة الشمس حتى تصير كالقديد، ومنه جاءت كلمة «التشريق» عند المسلمين، فسُميت الأيام الثلاثة بعد يوم النحر باسم «أيام التشريق الثلاثة». وأبقى الإسلام على بعض هذه الشعائر، لكنه طهرها من أدران الجاهلية، فلم يعد السر في السعي بين الصفا والمروة هو وجود الصنميّن «إساف ونائلة»، وإنما في هرولة السيدة هاجر أم إسماعيل عليه السلام بينهما بحثاً عن الماء. ولم يعد الحجر الأسود ومقام إبراهيم أحجاراً مقدسة لذاتها، بل لأنهما -في الأصل-ياقوتتان من يواقيت الجنة. تاريخ البيت العتيق تُجمع الروايات التاريخية كافة على أن الكعبة المُشرّفة، قبلة المسلمين منذ 14 قرنا من الزمان، وأول بيت وُضع للناس، هي بيت العبادة الأكثر قداسة الذي عرفته البشرية في تاريخها الطويل على وجه الأرض. وتُفيد روايات الإخباريين القدامى بأن الكعبة بُنيت 12 مرة عبر التاريخ، حيث بناها الملائكة عليهم السلام أول مرة، ثم أعاد بناءها كلُ من آدم عليه السلام، وشيت بن آدم، وإبراهيم وإسماعيل، وقبائل العمالقة وجرهم وقصي بن كلاب وقريش، وعبد الله بن الزبير، والحجاج بن يوسف الثقفي، وأخيراً بناها السلطان العثماني «مراد الرابع». بدأ بناء الكعبة، بمعرفة البشر، في عهد النبي إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما السلام -حين أمره الله سبحانه وتعالى، بأن يسكن مكة هو وأهله، رغم أنها كانت في ذلك الوقت جدباء قاحلة، قبل أن تتدفق «مياه زمزم» بمعجزة إلهية من باطن الأرض. ويقول الدكتور فهد الحسين، أستاذ إدارة موارد التراث الثقافي بجامعة الملك سعود «إن عمارة البيت الحرام مرّت بمراحل بنائية توالت عليه عبر تاريخها الضارب في القدم، وعلى الأرجح أن الأسس الأولى لبناء الكعبة وضعتها الملائكة، ثم في فترة تاريخية أخرى أعاد نبي الله إبراهيم عليه السلام في حدود عام 2800 قبل الميلاد، رفع قواعد هذا البناء الشامخ». وأعادت قبيلة «قريش» بناء الكعبة، سنة 18 قبل الهجرة النبوية، بعد أن اندلع فيها حريق كبير بسبب شرارة طارت من جمرة امرأة كانت تقوم بتبخير الكعبة، فاشتعلت النار في الكساء، وتداعى البناء بسبب ضخامة النيران. وسيطرت الحيرة على كبار رجالات قريش، فذهب فريق منهم إلى ضرورة هدمها وإعادة بنائها من جديد، بينما رأى آخرون عدم هدمها، والبناء فوق ما تبقى منها. في أثناء هذا الجدال المحتدم، شهدت مكة سيلاً جارفاً من شدة الأمطار هدم الأجزاء المتبقية من الكعبة، فبدأت قريش عملية الهدم، لكنها توقفت عندما شاهد الرجال أحجاراً ضخمة ذات شكل مغاير عما ألفوه خلال أعمال الهدم، فأدركوا أن هذه هي أساسات الكعبة، وشرعوا في البناء فوقها مستعينين بالأخشاب والأحجار، على نفس الهيئة المعمارية التي كانت موجودة من قبل. واستمر هذا البناء قائماً طوال عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، حتى جاء تولى عبد الله بن الزبير ولاية مكة في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ووقع حادث قصف مكة بالمنجنيق، فوجد «ابن الزبير» نفسه أمام أمريّن: إما ترميم الكعبة، أو هدمها وإعادة بنائها، لكنه قرر بناءها بعد هدمها وصولاً إلى قواعدها الأولى. وبعد مصرع عبد الله بن الزبير، واستيلاء الأمويين على مكة المكرمة، قرر الحجاج الثقفي إعادة بناء الكعبة من جديد، لإصلاح ما حدث لجدرانها من تصدعات، معللاً ذلك بأن «ابن الزبير» ابتدع في بناء الكعبة، فردها الحجاج إلى ما كانت عليه في عهد قريش. أمّا البناء الأخير للكعبة، بشكلها الحالي، فقد تم في عهد السلطان العثماني مراد الرابع في سنة 1040هـ- 1630م، بعد الأمطار الغزيرة التي شهدتها مكة المكرمة وقتها، وتحول هذا المطر إلى سيل عظيم، دخل المسجد الحرام والكعبة المشرفة، وبلغ منتصفها من الداخل، فسقط جدارها الشامي وجزء من الجداريّن الشرقي والغربي، وسقطت درجة السطح، لذلك أمر السلطان مراد بسرعة بنائها، وهو البناء الحالي الماثل حتى الآن. الذاهب مفقود. والعائد مولود كان الحج قديماً رحلة شاقة، تستغرق شهوراً طويلة للوصول إلى الأراضي المقدسة، ويبدأ الاستعداد لها بعد عيد الفطر مباشرة. وقد تنتهي هذه الرحلة بالموت عطشاً، بسبب عدم وجود مياه عذبة على طرق القوافل، وهو ما دفع الحكام والأمراء على مر العصور إلى حفر الآبار في طرق الحجاج. ويصوّر الرحالة الروسي المسلم عبد العزيز دولتشين في كتابه «الحج قبل مئة عام»، مشاهد مؤلمة في طريق الحج من جدّة على البحر الأحمر إلى مكة المكرمة، بسبب قلة المياه وأثرها على الحجاج. يقول دولتشين: «نسير منذ خمس ساعات، أنا ملتفّ بثوب الإحرام، مكشوف الرأس؛ أخذ عطش رهيب يُعذّبني، جفّ فمي كله، لا أستطيع تحريك لساني. الطريق يستمر بين صخور جرداء، وأحيانا تقع العين على أدغال عالية من الشوك». غير أن الخطر الأكبر الذي كان يتهدد الحجاج في أثناء رحلتهم للأراضي الحجازية، هو عصابات قُطّاع الطرق الذين يتربصون بهم من أجل نهب أمتعتهم، ولا يتورعون عن قتلهم لأتفه الأسباب، لذلك انتشرت آنذاك مقولة مفادها أن «الذاهب إلى الحج مفقود، والعائد منه مولود»، فكان الراغب في أداء الفريضة يكتب وصيته قبل شروعه في هذه الرحلة المحفوفة بالأخطار والمصاعب. وأشار «دولتشين» إلى خطورة قُطّاع الطرق على الحجاج، قائلاً: «سمعت بين الناس شتى الإشاعات والمخاوف عن هجوم البدو؛ واليوم سلبوا أحد الحُجاج 5 ليرات، وقتلوا آخر وأخذوا 40 ليرة، في حضوري جاء جندي وأبلغ الضابط أن رفيقه الذي راح معه من جدة إلى مكة قُتل بالحجارة». وخلال العهد العثماني، كانت تُفرض على قوافل الحجاج حراسات مشددة، في مقدمة القافلة ومؤخرتها، وكان لها طرق معينة تسلكها من دون غيرها نظراً لكونها آمنة، مع السير وفق جدول زمني محدد. فعند مرور القافلة بأراضي قبيلة ما، يتم تحصيل رسوم تسمى «الإتاوة» نظير الحماية من قُطّاع الطرق. وفضلا عن هذه المخاطر الأمنية، كان الحجاج يتعرضون في سفرهم أحياناً لبعض الكوارث الطبيعية، مثل العواصف والبرد القارس والسيول الجارفة. ذكر «ابن الجوزي» في كتابة مرآة الزمان» أن قافلة الحجاج الشامية سنة 692 هـ تعرضت لرياح عظيمة وبرد ومطر، وهلك الناس، وحملت الريح أمتعتهم وثيابهم، وحصلت لهم مشقة عظيمة. وفي سنة 1196هـ، اجتاحت قافلة الحج المصرية أثناء سيرها في الطريق بين مكة والمدينة سيل قضى على نصف الحجيج. ولذلك كله، لم تكن أعداد الحجاج في بداية القرن الماضي تتجاوز بضعة آلاف. ومع بداية توحيد المملكة، ازداد العدد عاماً بعد عام، بعد تحقيق الأمن والطمأنينة وتوفير سبل الراحة للحجاج. وباستعراض أعداد القادمين من الخارج بغرض أداء الفريضة منذ عام 1350هـ إلى وقتنا الحاضر، نلاحظ الزيادة المضطردة في عدد الحجاج القادمين من خارج المملكة، فبعد أن كانت الأعداد لا تتجاوز المئة ألف حاج حتى عام 1369هـ، وصلت في بعض المواسم قبل تفشي وباء كورونا إلى أكثر من مليونيّن ونصف المليون حاج. وفيما تستقبل الأراضي المقدسة نحو مليون حاج هذا الموسم، سواء من الداخل أو الخارج، وفقاً للحصص المُخصصة للدول، وهو العدد الأعلى منذ انتشار جائحة كورونا، كشفت «الهيئة العامة للإحصاء» عن أن إجمالي أعداد الحجاج الذين تشرَّفت المملكة بخدمتهم خلال الخمسين عاماً الماضية بلغ نحو 95.85 مليون حاج. *صحافي، عضو اتحاد كُتّاب مصر المصادر: جواد علي، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى 2001. «الحجُّ».. تأثير أنثروبولوجيا ما قبل الإسلام في المتخيَّل الإسلامي، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تاريخ النشر 31 يناير 2020. أساطير وحقائق حول الكعبة التي يطوف حولها المسلمون، موقع إندبندنت عربية، 11 أغسطس 2019.