من منظور سيمياء الشخصية ولغة الجسد..
التواصل غير اللفظي في حكاية أبي حيان مع الوزير والشاعر .

إذا كانت اللغة اللفظية تمثل مرآة للأفكار، وأداة أساسية للتواصل الفعّال بين البشر، فإنها ليست الوسيلة الوحيدة لذلك، إذ توجد أيضًا اللغة غير اللفظية (لغة الجسد)، التي تعبر بدقة عن انفعالات النفس وسلوكياتها، وأفكارها، ومشاعرها. فتسهم هذه اللغة، إلى جانب اللغة اللفظية، في إيصال المعنى والقصد والموقف إلى المتلقي بشكل صحيح ودقيق وفعّال. وتأتي هذه القراءة لرصد أهمية التواصل غير اللفظي في حكاية أبي حيان التوحيدي مع الوزير الصاحب ابن عباد والشاعر الزعفراني؛ إذ سعى أبو حيان التوحيدي إلى تصوير الحالات المادية والانفعالية التي ظهرت عليهما أثناء أحداث الحكاية، مما يدل على وعيه وإدراكه بأهمية اللغة غير اللفظية في عملية التواصل. وتعتمد القراءة على المنهج السيميائي، مركزةً على سيمياء الشخصية ولغة الجسد، باعتبارهما من أهم العلامات المشكلة للنص الحكائي، والتي بوساطتهما يتجلى المعنى وتُستخلص العبرة. نص الحكاية: قال أبو حيان في (كتاب أخلاق الوزيرين): "طلع ابن عباد عليّ يوما في داره وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئا قد كان كأدني به، فلما أبصرته قمت قائما، فصاح بحلق مشقوق، اقعد فالوراقون أخسّ من أن يقوموا لنا، فهممت بكلام، فقال لي الزعفراني الشاعر: اسكت فالرجل رقيع، فغلب عليّ الضحك واستحال الغيظ تعجبا من خفته وسخفه، لأنه كان قد قال هذا وقد لوى شدقه وشنّج أنفه وأمال عنقه، واعترض في انتصابه، وانتصب في اعتراضه، وخرج في تفكك، مجنون قد أفلت من دير حنّون، والوصف لا يأتي على كنه هذه الحال لأن حقائقها لا تدرك إلا باللحظ ولا يؤتى عليها باللفظ، فهذا كلّه من شمائل الرؤساء وكلام الكبراء، وسيرة أهل العقل والرزانة؟!، لا والله وتربا لمن يقول غير هذا"(). سيمياء الشخصية: تتمحور الحكاية حول ثلاث شخصيات، فالشخصية تعتبر العنصر الأهم في بنية الحكاية، فهي المحور الذي تدور حوله الأحداث، والوسيط الذي يوصل الكاتب بوساطته الأفكار إلى المتلقي، ويستخلص العبر والمعاني منها. تختلف هذه الشخصيات الثلاث في ترتيبها في السلم السياسي والاجتماعي، مما يعكس تنوع العلاقات داخل الحكاية، ويثري دلالاتها الرمزية، وهي كالآتي: • ابن عباد: وزير دولة. • أبو حيان التوحيدي: كاتب. • الزعفراني: شاعر. تُعد شخصية أبو حيان التوحيدي الشخصية المحورية في الحكاية، إذ تدور حولها معظم الأحداث. فقد مرت هذه الشخصية بسلسلة من الأحداث ذاتِ دلالات رمزية متعددة، وهي: الحدث الدلالة الكتابة انصياع وطاعة دخول الوزير، والوقف له احترام وتقدير صياح الوزير احتقار وإهانة محاولة الرد الغضب (اللاوعي) تدخل الزعفراني السخرية والاستهزاء الضحك إدراك (الوعي) تتجلى هذه الأحداث جميعها في موقفين مباشرين واجهتهما الشخصية المحورية، وهما يكشفان بوضوح عن وجود عدو للشخصية المحورية، وهو الوزير الذي دل فعله على احتقار وإهانة لها، فمهما قدمت له من خدمات وطاعة واحترام لا يقابلها إلا احتقار وإهانة، ما جعل الشخصية المحورية تخرج عن وعيها إلى اللاوعي في حالة غضب ناسية مكانة شخصية العدو، لتأتي الشخصية المساعدة، وهو الشاعر الزعفراني، لتتدخل في الحدث وتنجي الشخصية المحورية من ظلم شخصية العدو، وترجع للشخصية المحورية وعيها بأسلوب ساخر. فهذه الشخصيات الثلاث تقودنا إلى مرجعيات سلوكية، وهي: • الشخصية العدو: ترجع إلى فئة التعالي والتكبر، وهذا السلوك يقود أصحابه إلى فعل وقول الحماقات. • الشخصية المحورية: ترجع إلى فئة الانفعال وسرعة الغضب، وهذا السلوك يقود أصحابه إلى ردة فعل تفقده توازنه ووعيه في المواقف السلبية. • الشخصية المساعدة: ترجع إلى فئة العقل والحكمة، وهذا السلوك يقود أصحابه إلى تفادي المواقف السلبية بأي طريقة كانت. يمكن تمثيل سلوك الشخصيات في الموقفين بالتالي: • التقليل من الشأن التقليل من الشأن وزير وزير الشخصية العدو الشخصية العدو فعل أحمق فعل أحمق مرسل مرسل الشخصية المحورية الشخصية المحورية غضب غضب احتقار إهانة احتقار إهانة مستقبل مستقبل كاتب كاتب • الموقف الثاني: سلوك السخرية والاستهزاء- موقف إيجابي للكاتب التقليل من الشأن التقليل من الشأن الوزير الوزير سخرية سخرية مرسل مرسل شاعر شاعر الشخصية المساعدة الشخصية المساعدة مشهد السخرية مشهد السخرية ضحك ضحك الشخصية المحورية الشخصية المحورية مستقبل مستقبل كاتب كاتب يتضح مما سبق أن سلوك كلٍ من الوزير والشاعر يتشابه في بنيته الدلالية، فكلهما يدلان على التقليل من شأن الآخر، غير أن دلالة هذا السلوك تختلف باختلاف مكانة الشخص في السلم السياسي والاجتماعي، فسلوك الوزير اتسم بالظلم والاحتقار والعنصرية؛ ذلك لأنه يمثل السلطة والنفوذ، مما ولد الشعور بالغضب، أما سلوك الشاعر فغلبت عليه الدعابة والسخرية والشجاعة؛ ذلك لأنه يمثل فئة عامة الناس، مما ولد الشعور بالضحك والتخفيف من حدة الموقف. من هنا، يتبين أن دلالة السلوك وردود الفعل الناتجة عنه تتحدد وفقًا لمكانة الفاعل الاجتماعية والسياسية؛ بل إن عكس الأدوار بين الشخصيات لن يغير من الدلالة شيئًا، لأن السلطة أو انعدامها تفرض طبيعة التأويل والانفعال تجاه السلوك ذاته. سيمياء لغة الجسد: وهو التواصل غير اللفظي، الذي يشمل الحركات والإشارات والإيماءات والتعابير الصادرة عن الجسد في مواقف مختلفة. إذ تحمل هذه اللغة دلالات ومعاني رمزية تسهم في تعزيز عملية التواصل بين المرسل والمستقبل، وتؤثر عليه سواء بطريقة إيجابية أو سلبية. فالتواصل اللفظي وحده لا يكفي لإيصال المعنى، بل ثمة حاجة ماسة إلى توظيف لغة الجسد لإيصال المعنى المراد بالشكل الصحيح والدقيق للمستقبل. كما أنَّ للغة الجسد قدرة فعّالة على تحديد سلوك الأشخاص والكشف عن مواقفهم النفسية والاجتماعية. ففي الحكاية، يتضح أن لغة جسد شخصية العدو اتسمت بالطابع الجدي (الدرامي)، مما عكس دلالات واضحة على الاحتقار والإهانة للتقليل من شأن الشخصية المحورية، في قولها: "اقعد فالوراقون أخسّ من أن يقوموا لنا"، مما أدى إلى إثارة غضب الشخصية المحورية. أما لغة جسد الشخصية المساعدة اتسمت بالطابع الهزلي (الكوميدي)، مما دل على السخرية والاستهزاء في قولها: "اسكت فالرجل رقيع" أي: أحمق؛ وذلك لأنه قدم مشهد تصويري تمثيلي بلغة جسده، قلد بوساطته صوت الوزير وطريقة قوله ومشيته وخروجه من الإيوان بأسلوب ساخر، مما ساهم بتغير موقف الشخصية المحورية من غضب إلى ضحك، أدى لتخفيف حدة الموقف وإعادة التوازن. ولو أن الشخصية المساعدة اكتفت باللغة اللفظية دون اللغة غير اللفظية لما تغير الموقف، ولبقي الغضب هو سيد الموقف. فاللغة اللفظية بإمكاناتها التعبيرية، والبيانية، والبلاغية لا تمتلك القدرة الفعالة لوحدها في وصف الحالات المادية (الكوميدية والدرامية). وهذه الملاحظة قد أشار إليها أبو حيان في قوله: "والوصف لا يأتي على كنه هذه الحال لأن حقائقها لا تدرك إلا باللحظ ولا يؤتى عليها باللفظ". كما أشار في موضع آخر لأهمية لغة الجسد في إيصال المعنى والموقف والقصد: "ومِلح هذه الحكاية ينتثر في الكتابة، وبهاؤها ينتقص بالرواية دون مشاهدة الحال وسماع اللفظ، وملاحة الشكل في التحرك والتثني، والترنّح والتهادي، ومدّ اليد، وليّ العنق، وهزّ الرأس والأكتاف، واستعمال الأعضاء والمفاصل"(). جامعة دار العلوم- الرياض