
يسرني أن أشارككم هذا التأمل في تجربة شعرية لا يمكن حصرها أو الإحاطة بها من خلال مقال أو ورقة، بل هي أقرب ما تكون إلى نهر لا نهاية له، إلى صحراء لا تُروى بكلمة. أتحدث إليكم اليوم عن الشاعر الراحل الحاضر الأمير بدر بن عبدالمحسن، لا بروح الرثاء، بل بروح الاحتفاء، فالكتابة عنه كتابة عن الجمال، عن الدهشة، عن الفن الذي استطاع أن يظل متقدًا في الوجدان الجمعي، خارج التصنيفات النخبوية والقطرية، متجاوزا حدود اللهجة، والموسيقى، والتصنيف السياسي والاجتماعي. الشرارة : أبدأ بما يشبه الشرارة التي أطلقت هذا التأمل؛ حين كتبتُ منتصف التسعينات في جريدة اليوم، في سلسلة “قراءة ذاتية لتيار جماعي” بمشاركة الصديق الشاعر علي الدميني، عن تجربة البدر بوصفها تجربة تحديث مبكر للقصيدة النبطية. تلك المقالة، كما أخبرني لاحقًا الشاعر والصحفي عبدالوهاب العريض، كانت أحد الدوافع لطلبه مشاركتي بهذا الملف عن البدر في مجلة القافلة. واليوم أجدني أقف من جديد أمام هذا الشاعر، شاعر لا يُمكن تأطيره بسهولة، ولا اختزاله في كونه “أميرًا شاعرًا”، بل هو شاعر مجدد نبطي حداثي بامتياز، حتى وإن حالت مناعته الاجتماعية والسياسية دون نعت تجربته بالحداثية علنًا، في ذروة الهجوم على مشروع الحداثة الثقافي في بلادنا. الأرضية الاجتماعية وبعدها العربي والسعودي لتجربة البدر : قبل الدخول لأهم محاور تجربة البدر الشعرية ودي ألفت النظر لإطار التاريخ الاجتماعي الذي ولدت فيه تجربة البدر الشعرية. حيث لا تولد التجارب الإبداعية من فراغ ولا تعبر عن فراغ بل في الغالب تكون تعبيرا عن ضمير المجتمعات وأشواق الشعوب وقواها الاجتماعية الشابة و أجيال سابقة ولاحقة وتجربة البدر ولدت ككل التجارب الإبداعية الهامة في لحظة لم تخل من قلق التحولات وجدلها في الوطن العربي تمثل في صعود مد التحديث الإبداعي متفاعلا مع قضايا النهضة وسجالها مع التحديات عسكرية وسياسية. المد العروبي، قضية فلسطين، مدرسة شعر، مد المقاومة، وفي الداخل خطط التنمية، مد الحداثة الأدبية جدل القديم والحديث، ما بعد طفرة النفط، حرب الخليج، الهجمة على الحداثة، تقية الحداثة، المد والدور الوطني للشعر النبطي، مد الشعر النبطي بشكل تجديدي، تكريس الانتقال والتقلب فيه بين القصيدة النبطية العامودية والتفعيلة، مد مجلات الشعر الشعبي مثل مجلة المختلف التي شارك فيها البدر مع ناصر السبيعي في التسعينات، مجلة قطوف محمد آل الشيخ وفهد عافت، فواصل د. محمد بن علي الحربي وعبد الرحمن الحمدان وطلال الرشيد، بروز اسماء مؤثرة: خلف بن هذال سعد الجدلان، عبدالرحمن بن مساعد، مساعد الرشيدي. وبعد هذه الوقفة المختصرة اختصارا مخلا بالأرضية الاجتماعية لتجربة البدر وتفاعلاتها انتقل إلى التجربة نفسها. لب التجربة ومحاورها الأساسية وفي محاولتي تقديم مدخل لتجربته، أقف عند ثلاثة محاور: أولا: التفاعل الحر المستقل مع التجارب الشعرية المغناة الشاهقة. حين أقرأ تجربة البدر، أجد أنها تماهت – لا تبعية – مع تجربة الرحابنة، لا سيما من ناحية: 1 -تجديد القصيدة باللهجة المحكية، لكن باللهجة السعودية هذه المرة. 2 - مزج الشعر بالموسيقى بطريقة غير مسبوقة، تتجاوز مجرد التلحين إلى خلق تفاعل حي نابض. 3 -الوصول إلى الجمهور العريض دون وسائط نُخبوية، وهو ما جعلها تجربة جماهيرية لا شعبوية. لكنني أؤكد - وهذا استنتاجي الشخصي – أن البدر لم يكن تابعًا للرحابنة، بل اقترب منهم كمبدع يشتبك مع الظواهر الكبرى دون أن يُستهلك فيها. شاهدت أكثر من مرة مقابلته المهمة مع نرفانا إدريس عام 1997 في تلفزيون الكويت، والتي ظهر فيها تماسه الواعي مع تجربة الرحابنة، دون أن يُفرط باستقلاله. ثانيًا: تعدد الطيف الوطني وتنوعه في تجربة البدر الشعرية وهذا محور حساس ودقيق في تجربته. لقد قدّم بدر بن عبد المحسن نموذجًا وطنيًا في الشعر، حين كتب قصيدته النبطية الحديثة بلهجات متعددة من لهجات المملكة، لا بلهجة واحدة، مؤكدًا بذلك على وحدة الوطن بتعدده. هذا لم يكن قرارًا سياسيًا بل كان قرارًا شعريًا جماليًا وطنيًا. وأمثل على ذلك ببعض من نصوصه التي مزج فيها بين اللهجات: من قصيدة “عطني المحبة” التي غناها طلال مداح، نجده يمزج بين لهجة نجد والحجاز: “عطني المحبة كل المحبة عطني الحياة عطني وجودي أبغى وجودي أعرف مداه” وفي قصيدة زمان الصمت”، كتب بلغة شعبية بيضاء تتجاوز الخصوصيات المناطقية: “حبيبي يا حبيبي كتبت اسمك على صوتي كتبته في جدار الوقت على لون السما الهادي على الوادي على موتي وميلادي” أما في إعادة كتابة “يا مركب الهند”، فنسمع صوت الحجاز يهمس بشوق: “يا ليتني كنت ربانه لكتب على دفتك سطرين طال انتظاري وقلبي جريح وأبحر بشوقي لنور العين بحر الأماني ماله مواني ضيع زمانك وضيع زماني وضاع المركب بربانه” وفي قصيدة “ليلة”، نسمع صوت المنطقة الشرقية واضحًا، فيما يشبه الانحياز الجمالي لتنوع الوطن: “يا الله يا الله وش كثر إنتِ جميلة وش كثر أنا أحب” ثالثا: شاعرية البدر الأوبراتية وهنا أصل إلى ما أعتبره أحد أهم محاور التجديد في تجربته: قصائد الأوبريت الوطنية. هذه تجربة شعرية مركّبة، لأنها لیست مجرد نصوص، بل منظومة فنية شاملة تمتد من الكلمة إلى الموسيقى إلى الأداء المسرحي والإضاءة والديكور. ورغم قلة الكتابة النقدية حول هذا الشكل الشعري المركب، إلا أنني أؤكد أن البدر في هذه التجربة انحرف – إبداعيًا – عن المديح التقليدي، فلم تكن قصائده تمجيدًا لبلاط، بل كانت احتفالًا بالوطن بالأرض، بالهوية. لقد قدم صورة رمزية للممدوح في سياق أكبر هو الوطن، ولم يطغِ الشخص على البلاد، بل تماهى معها. ومن قصيدة أوبريت فارس التوحيد، أشارككم هذه المقاطع التي تجسّد شعريًا انحيازه للمكان والناس والهوية: “صوت النوارس غاب ... طير ورحل لأرضه وفي الجناح عقاب ... طير ورحل لأرضه وداعتك يا طير ... لامن رجعت بخیر جب للغريب تراب من الوطن وأرضه” ويقول: “قم وارفع الأذان ... لابد نصلي في القدس ... في المسجد القديم ينساب في عروقي ... نهر من النخيل يفيض في المآقي ... حزن على الخليل” ويختم بالأرض: “قرن مضى بلادي ... إذ تهطل السنين كالغيث في البوادي ... ويعشب الحنين قرن مضى وأنت عزيزة كريمة في المجد والمعالي جديدة قديمة عظيمة بلادي في روحها عظيمة” في الختام... حين أتأمل تجربة البدر، أجدها عصية على الاحتواء، طليعية بلا ضجيج، وجماهيرية بلا تسطيح. لقد حرر القصيدة النبطية من قوالبها وربطها بالناس، ووسعها لتصبح تعبيرًا عن وطنٍ متنوع، غني، وحي. ولذلك فإن الحديث عنه ليس فقط وفاءً، بل هو ضرورة نقدية وجمالية لفهم معنى التجديد حين يتجسد في جسد القصيدة، في نبضها، وفي صداها بين الناس. *نص المحاضرة التي ألقتها الشاعرة في نادي الكتاب مساء أمس الأربعاء .