قراءة في تصور كارل ياسبرز..

الحرية كممر إلى الإيمان!

لا ينبثق الإيمان، في تصور كارل ياسبرز، من حدود التجربة الحسية، ولا يتأسس على شواهد العالم الطبيعي أو براهين العقل. إنه يتشكل في نقطة أعمق، في منطقة تنفتح فيها الذات على حريتها، وتتلمس فيها وجودها الحقيقي. ولهذا فإن مصدره ليس حدود تجربة الإنسان في العالم، وإنما مصدره حرية الإنسان. الإيمان لا يُستقى من وقائع العالم، بل من وعي الذات بحريتها. في اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أنه ليس مجرد كائن منساق، بل فاعل مسؤول، يملك أن يقول “لا” بقدر ما يملك أن يقول “نعم”، تنفتح له إمكانية الإيمان. إن الإنسان الذي يبلغ وعي حقيقي بحريته يظفر باليقين بوجود الرب، لا لأنه قرأ براهين أو اتبع نبوءات، بل لأنه اختبر حقيقته. “الحرية والرب لا ينفصلان” كما يقول ياسبرز. وكلما تعمق الإنسان في حريته، انفتح على المطلق. وكلما تجاهل حريته، انغلق في العالم الحسي. الحرية هنا ليست مجرد خيار، بل هي كينونة، إنها الوجود ذاته. “يسمي كارل ياسبرز حرية الإنسان وجودًا، ويقين الإنسان بالرب له ما لوجوده من قوة، فالإيمان ليس إضافة على الإنسان، بل امتداد لوجوده الأصيل. والرب، في هذا السياق، ليس شيئًا خارجيًا يضاف إلى الموجودات، بل “حضور أمام الوجود”، لا يُدرك كشيء من أشياء العالم، بل يُستشعر حين يحضر الإنسان بكليّته. الإيمان ليس قناعة عقلية، بل انكشاف وجودي. إن اليقين بهذه الحرية يستلزم اليقين بوجود الرب، أي أن وعي الإنسان بحريته لا يكتمل دون أن يلامس المطلق، تمامًا كما أن إنكار الحرية يقترن بإنكار الرب. من لم يختبر محنة الحرية، لن يبحث عن المطلق. بل يرضى بما هو معطى، ويقنع بالسطح. يقول عبدوس سيدي محمد في بحثه الموسوم بـ الايمان الفلسفي عند كارل ياسبرس: “إذا لم يختبر الإنسان محنة الذاتية، فليس بحاجة إلى أي علاقة بالرب، بل يقتنع بالوجود الطبيعي الحسي، وبوجود الآلهة والشياطين”. وحين يُفقد الوعي بالحرية، يُستبدل الرب بالآلهة، والإيمان بالخرافة. هذا التصور يلتقي في جذره مع تصور كيركيغارد، الذي رأى أن الإيمان قفزة في الفراغ، نابعة من قلق الذات وحريتها. ويلامس كذلك تصور هايدغر حين تحدث عن الأصالة بوصفها انفتاحًا على الموت والمعنى. لكنه عند ياسبرز لا يقف عند حدود التجربة، بل يتجذر في الحرية باعتبارها جوهر الوجود، والبوصلة التي تقود إلى الإيمان الحي.