علم نفس الجماعات الإسلامية:

قراءة نفسية في سلوك حركات الإسلام السياسي ومؤيديها بعد 7 أكتوبر.

عندما كنت على مقاعد الدراسة في مرحلة الماجستير، وتخصصت في علم النفس السياسي، لم أكن أبحث عن إجابات جاهزة، بل عن أدوات لفهم ما بدا لي دائمًا أعقد من أن يُختزل في معادلات القوة: سلوك الإنسان حين يمتلك السلطة، أو حين يقاتل من أجلها، أو حين يخاف فقدانها. في ذلك الحقل، لم تكن السياسة مجرد مؤسسات أو أنظمة أو قرارات، بل حالة نفسية في المقام الأول. وحين تتخذ هذه الحالة شكلاً جماعيًا — كما في الحركات المؤدلجة أو الجماعات المسلحة — فإنها تُنتج خطابًا وسلوكًا لا يُفهم من ظاهره، بل من دوافعه العميقة. لقد كنت مشغولًا بمحاولة فهم السياسي، لا كفاعل عقلاني فحسب، بل ككائن هش، مضغوط، قَلِق، تتحكّم به انفعالات غير مرئية: الخوف من الزوال، الحاجة للاعتراف، والرغبة في السيطرة على المعنى لا فقط على الأرض. كما كنت أحاول تفكيك الجماعات لا بوصفها تنظيماً، بل بوصفها نفسًا جمعيّة تسكنها روايات البطولة والخلاص والهزيمة. في هذا السياق، لم يعد من الممكن النظر إلى سلوك الحركات المؤدلجة — خاصة في لحظات التحول أو التصعيد — بمعزل عن حالتها النفسية. فكل قرار يبدو سياسيًا، يخفي تحته طبقات من التوتر العاطفي والدفاعات النفسية، وكل شعار جماهيري يخاطب في الناس ما هو أعمق من الاقتناع: يخاطب الخوف، والهوية، والشعور بالانتماء في مواجهة عالم يتغيّر دونهم. عندما تواجه الحركات المؤدلجة خطر فقدان دورها التاريخي، فإن استجابتها لا تكون دائمًا عقلانية أو تكتيكية، بل في كثير من الأحيان، تكون مدفوعة باحتياجات نفسية جماعية مرتبطة بالهوية والاستمرار. ومن هنا، يمكن تفسير هجوم 7 أكتوبر بوصفه استجابة لا فقط لخصم خارجي، بل لمصدر تهديد داخلي: تآكل الدور الرمزي الذي تمارسه حركات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، في تمثيل “القضية المركزية” للعالم الإسلامي. مع تحوّل القضية الفلسطينية تدريجيًا إلى مسار سياسي تسيطر عليه مفردات الدولة، التفاوض، والمؤسسات، واجهت هذه الحركات احتمال أن تُستبعد من مشهد كانت قد تماهت معه لعقود. بالنسبة لها، لم تكن فلسطين مجرد أرض محتلة، بل مسرحًا دائمًا للبطولة العقائدية، وعنصرًا جوهريًا في تشكيل سرديتها الشاملة. ومع احتمال اكتمال مشروع الدولة، بدا أن هذه السردية تفقد حيويتها، بل ومشروعيتها. وفي مثل هذه اللحظات، لا تستجيب القيادات في الحركات فقط لحسابات الربح والخسارة، بل لهواجس فقدان المعنى. ومن هنا، يُقرأ الفعل الصادم كوسيلة لاختراق الزمن السياسي المتغير، واستعادة رمزية الجماعة في مواجهة مشهد يهدد بإخراجها من اللعبة لا بهزيمتها، وبعبارة أخرى: كانت الجماعة تقاتل لا لتنتصر، بل لتحافظ على بقائها. هذا النوع من السلوك، حين يُستثار داخليًا، يُصبح غير قابل للتفاوض أو التعديل، لأن دافعه لا ينبع من الحسابات، بل من قلق وجودي عميق لدى التنظيمات التي قامت على فكرة “الصراع الدائم”. وإذا ما انتُزعت منها هذه البيئة الصراعية، فإنها لا تخسر أدواتها فقط، بل تفقد ذاتها. في السياق الذي تتحرك فيه الحركات المؤدلجة، لا تبقى الجغرافيا مجرد مساحة فيزيائية، بل تتحوّل إلى رمز نفسي مركزي، يُعاد من خلاله تشكيل الهوية الجماعية وتثبيت الشرعية التنظيمية. هذا ما حدث مع “غزة”؛ فلم تعد تُرى فقط كموقع مقاومة أو ساحة مواجهة، بل أصبحت — بالنسبة لهذه الحركات — البؤرة التي يُعاد عبرها إنتاج كل المعاني الكبرى: البطولة، الخلاص، المظلومية، والانتماء للأمة. احتكار غزة بهذا المعنى لم يكن عسكريًا فقط، بل رمزيًا — وبدقة أكثر: نفسيًا. لقد أصبحت غزة، في اللاوعي السياسي لتلك الحركات، آخر الحصون التي تمنحها وجودًا في خريطة الشرعية الثورية. ومع تآكل المشروع الإقليمي لحركات الإسلام السياسي، وتراجع خطابها في عواصم عربية عدة، أصبحت غزة الحامل الأخير لخطاب يتهدده التلاشي. وعندما تحوّلت غزة إلى رمز، أصبح من غير الممكن — في وعي هذه الجماعات — فصل أي تسوية سياسية أو مشروع بناء دولة فلسطينية عن تهديد مباشر لوجودها. فحل الدولتين لا يعني فقط نهاية الاحتلال، بل نهاية الوظيفة الرمزية التي تؤديها غزة بوصفها “العنوان الثابت” للمقاومة. وبذلك، يصبح أي مسار نحو الدولة تهديدًا بنيويًا، لأن ولادة كيان سياسي مستقل يُقصي — بحكم منطق الدولة — المشروع الذي يعيش على ديمومة الصراع. ومن هذا الموقع، جاءت العملية المسلحة في السابع من أكتوبر بوصفها محاولة لإعادة تثبيت غزة كمركزٍ رمزيٍ لا يمكن تجاوزه، وكحقل معنوي يفرض حضوره على كل من يحاول ترسيم مستقبل سياسي بديل. لقد بات الفعل الصادم ضرورة نفسية لإعادة غزة إلى قلب الحدث، ليس فقط ضد الاحتلال، بل ضد كل سردية تحاول سحب البُعد الرمزي منها وتحويلها إلى “جزء من دولة”. التحكم في غزة، بهذا المعنى، هو التحكم في الرمز. ومن يملك الرمز، يملك القدرة على إنتاج المعنى، وفرض الثنائية القسرية: إما أن تكون غزة هي فلسطين، أو لن يكون هناك دولة فلسطينية. وفي هذا السياق، يتم تصنيف المسلمين وفقًا لموقفهم من غزة: من يقف مع غزة يُعتبر مناصرًا للأمة الإسلامية، بينما من لا يقف معها يُصنف كخائن للأمة. وبين هذين المعنيين المتطرفين، تُغلق الأبواب أمام خيارات أكثر تعقيدًا أو واقعية، مثل التفكير في السيادة الفلسطينية أو المصالحة الوطنية. إن اختزال غزة في هذا الرمز لا يُضعف فقط قدرة الفلسطينيين على توليد مشروع وطني موحّد، بل يُخضِع وعيهم الجمعي لحالة من الانفعال المزمن، حيث تُقابل كل محاولة لإعادة تفسير دور غزة الرمزي أو إعادة النظر في الرمزية المرتبطة بغزة بالاتهام والتخوين. وهنا، لا تصبح غزة ساحة مقاومة، بل رهينة معنوية في يد خطاب يخشى زواله أكثر مما يسعى للانتصار. حين تفقد الحركات الأيديولوجية ساحات تمددها في الواقع، تعوّض ذلك بالتمركز في “الرمز”، لا باعتباره مجرد تمثيل دعائي، بل كونه مركزًا نفسيًا تتمحور حوله الهُوية التنظيمية ويُعاد تعريف الواقع من خلاله. بالنسبة لحركات الإسلام السياسي، لم تعد غزة — في وعيها التنظيمي والجماهيري — مجرد قطاع جغرافي محاصر، بل أصبحت الموقع الذي تصب فيه الجماعة كامل حاجتها للشرعية، والبطولة، والديمومة. ومع تراجع قدرتها على التأثير السياسي في الواقع، حين تتضاءل الحواضن، وتضيق الخيارات، وتفقد الحركات قدرتها على إنتاج مشروع سياسي قابل للعيش، تحولت غزة إلى ما يشبه “العقدة النفسية”، يتم الدفاع عنها لا بوصفها مدينة، بل بوصفها مرآة الوجود. هنا، يُصبح أي مسار سياسي نحو دولة فلسطينية لا يحمل توقيعها تهديدًا ليس لوضعها فقط، بل لوجودها الرمزي ككل. هذا التصعيد في مركزية غزة داخل الخطاب لا يأتي من فراغ، بل من شعور جمعي بأن الزمن يتحرّك دون الجماعة، وأن السياسة تتجاوزها، وأن رمزية “المقاومة” باتت تُستبدَل بلغة التسوية، وبناء المؤسسات، ومشاريع الحكم. ومن هنا، تُستولد الحاجة إلى تثبيت غزة كرمز غير قابل للتفكيك أو المشاركة، بوصفها آخر مساحة تُمكن الجماعة من الإطلالة على المشهد وتذكير الجميع: “نحن لا نزال هنا”. لكن هذا الرمز، حتى وإن صُمّم ليوحّد، أصبح — بطبيعته الانفعالية والدينية — أداة انقسام داخلي. فكل من يقترب من غزة بمنطق سياسي أو واقعي، يُتهم بالخيانة، لأن اقترابه يُفسَّر لا كخلاف في الرأي، بل كمحاولة لانتزاع الرمز من صاحبه الشرعي. وهكذا، تتحول غزة إلى ما يشبه “الأرض المقدّسة نفسياً” داخل التنظيم، وكل من يقترح تسوية، أو يعيد ترتيب الأولويات، يُعامل كمن يريد تدمير الأمة الإسلامية وقضيتها المركزية. وهنا، تتداخل ثلاثة مستويات من الدفاع النفسي، التي تُعزز من تعقيد الموقف وتُقيد أي محاولة لتفكيك هذه الرمزية أو الخروج منها: •التماهي التام: حيث يرى التنظيم نفسه في غزة، وتُصبح أي خسارة لها خسارة للذات. •الإسقاط: حيث تُسقط الجماعة كل فشلها أو عجزها على أطراف أخرى، باعتبارهم هم من يفرّطون. •الإنكار: وهو الأعمق، حيث تُرفض كل مؤشرات الواقع (الدمار، العزلة، الانهيار) باسم الحفاظ على الرمز. وفي هذا السياق، تُستثمر غزة لا كملف وطني مشترك، بل كرمز محتكر، وكأداة لإعادة بناء السردية حين تتصدع، أو لإسكات النقد حين يظهر. ومن خلال الحملات الإعلامية، وشعارات المقاطعة، والإدانة الأخلاقية، يُعاد تسليح غزة رمزيًا لتقوم بدورها كـ”معمل تعبئة دائم”، لا كساحة تفكير وطني. لكن الخطر الأكبر هو أن هذا الاحتكار الرمزي لا يمنح الفلسطينيين مشروعًا، بل يُقايضهم بهويتهم. فمن أراد أن يُحسب على الأمة، يجب أن يمر عبر غزة — وفق الشروط الرمزية لا الواقعية. وفي اللحظة التي يحاول فيها أي فرد أن يسأل عن جدوى هذا المسار، أو عن ثمنه، يُتهم بأنه نزع القداسة عن الرمز، وكأنه انتزع المعنى من الوجود. وهكذا، لم تعد غزة بالنسبة لتلك الحركات نقطة انطلاق نحو حل، بل جدارًا دفاعيًا رمزيًا يُحصّن سردية قديمة من التفكك، حتى لو كان ثمن ذلك عزل القطاع، وتحويله إلى ركام من الجثث، تستخدمه الجماعة كإثبات أخلاقي، لا كمجال لحياة ممكنة. إذا كانت القيادة المؤدلجة تُملي الفعل، فإن الجمهور المؤدلج هو من يمنحه الشرعية الرمزية، لا عبر التأييد الواعي، بل من خلال أنماط نفسية جماعية تحت وطأة الشعور المتوهم بالخذلان، حيث تُخيل لهم الجماعات أنهم الوحيدون الذين يمثلون الأمة، في مواجهة انكشاف حضاري وضعف في الهوية. هذا الجمهور لا يتفاعل مع الأفعال الصادمة كقرارات سياسية تخضع للمساءلة، بل كطقوس خلاصية تُعيد إليه الشعور بالانتماء، وتقدّم له بديلاً رمزيًا عن النصر المؤجل. تبدأ هذه العلاقة من التمـاهي: حيث لا يرى الفرد نفسه كعنصر مراقب للفعل، بل كجزء منه، أو كامتداد للبطولة المتخيلة. في هذه الحالة، يصبح الانتصار الرمزي للفاعل السياسي انتصارًا شخصيًا للفرد المتلقي، حتى لو لم يغيّر ذلك شيئًا من وضعه الفعلي. هذا التماهي ليس عاطفيًا فقط، بل يُعيد للفرد شعورًا بالعزة والكرامة، يفتقده في بيئة يشعر فيها بالهامشية واللاجدوى. لكن التماهي وحده لا يكفي لبناء موقف صلب أمام التناقضات الصارخة. وهنا يأتي الإسقـاط كآلية دفاع: حين يواجه هذا الجمهور مأزقًا في تفسير النتائج (كفشل العملية، أو الخسائر الإنسانية الهائلة)، لا يتجه إلى مراجعة الفعل أو محاسبة الفاعل، بل يُسقِط المسؤولية على خصوم الجماعة، أو على ما يسمى “المتخاذلين”، أو “المخدوعين” بالمفاهيم الغربية. بهذه الطريقة، يبقى الرمز نقيًا، وتبقى الجماعة طاهرة، وتُلقى كل التبعات على الآخر. أما حين تبلغ الوقائع حدًّا لا يُمكن تغطيته بالتبرير، يظهر الإنكار: وهو أقوى آليات الحماية النفسية، لكنه أيضًا أكثرها تدميرًا على المدى الطويل. الإنكار لا يعني فقط رفض الحقائق، بل إعادة تأويلها بمنطق مقلوب: أن المجازر نصر، وأن الفشل صبر، وأن الخراب برهان على الصدق. بهذه الطريقة، تُعطل القدرة على التقييم العقلاني، ويتحوّل الجمهور إلى وعاء تعبئة دائمة، يُستهلك لا يُقنع. ما يجب التنبّه له هو أن هذه العمليات الثلاث — التماهي، الإسقاط، الإنكار — لا تعمل في فراغ، بل تُغذّيها بيئة إعلامية دينية مؤدلجة، تُعيد صياغة اللغة اليومية حول “الولاء والبراءة”، “النصر أو الخيانة”، وتُحاصر الفرد نفسيًا داخل منظومة يَصعُب فيها التفكير المستقل دون شعور فوري بالذنب أو العار. هذه البنية النفسية تُنتج ما يمكن تسميته بـ”الولاء القَلِق”: حيث يظل الفرد مشحونًا عاطفيًا، لكنه غير قادر على مساءلة من يوجه مشاعره، ولا يملك أدوات لفك الارتباط بين إيمانه بالقضية وتقييمه للفاعل المؤدلج. وبهذا المعنى، لا تعيش الجماعة فقط من سلوكها، بل من سيكولوجية جمهورها، الذي يمدها بطاقة البقاء الرمزي، ويمنع المساءلة السياسية بحجج أخلاقية وعاطفية لا يمكن اختراقها بسهولة. في داخل جمهور الحركات المؤدلجة لا يوجد نمط واحد ثابت، بل طيف من الأنماط النفسية المتداخلة، يتشكل كل منها بحسب درجة التماهي، الخلفية الدينية أو الثقافية، وكمية الضغط النفسي المتراكم في السياق العام. لكن يجمعهم قاسم مشترك: أنهم يتلقّون الأفعال الرمزية — كعملية 7 أكتوبر — لا بوصفها سياسات تُقيّم، بل باعتبارها مواقف وجودية يُتخذ فيها الطرف فورًا دون مراجعة. أول هذه الأنماط هو “المؤمن المطلق”، الذي يتماهى كليًا مع الفاعل الأيديولوجي، ويرى كل ما يصدر عنه تجسيدًا للإرادة الإلهية أو للحق المطلق. هذا النمط غير معني بالنتائج، ولا يتأثر بالخسائر. ولعل أقرب نظير لهذا في التاريخ العربي هو جمهور القومية الناصرية بعد هزيمة 1967، حيث فُسّرت الهزيمة حينها كـ”مؤامرة كونية” لا كمحصلة لخلل بنيوي. والنمط الثاني هو “المتلقي المشروط”، وهو فرد يشارك القيم العامة للجماعة، لكنه لا ينتمي تنظيميًا. هذا النمط يتعرض لصراع داخلي حين تتعارض القيم الأخلاقية مع النتائج الواقعية. في لحظات الانكشاف، قد يلجأ إلى الإسقاط — بأن يحمل المسؤولية على طرف خارجي — لكنه على المدى البعيد، أكثر عرضة للانفصال النفسي عن الجماعة إن لم يجد تفسيرًا مقنعًا. أما النمط الثالث فهو “المتلقي الخائف”، الذي لا يقتنع كليًا، لكنه يخشى الخروج عن السرب. يعيش هذا النمط تحت ضغط اجتماعي أو ديني، ويصمت رغم التناقض، خوفًا من النبذ أو التصنيف. هذا النمط يُغذَّى عادةً عبر خطاب المقاطعة أو “التخوين المسبق”، ويجد نفسه مرغمًا على دعم الرمز رغم وعيه بخلله. والمفارقة أن كافة هذه الأنماط تتواجد داخل نفس الجمهور، ويتنقل الفرد بينها بحسب الموقف، والضغوط، والحالة النفسية. لكن البيئة الإعلامية المتطرفة، واللغة التعبوية الحادة، تضعف القدرة على التشكيك وتُبقي الجمهور في حالة شحن دائم. يمكن مقارنة هذا مع جمهور حزب الله في 2006، حيث رأى قطاع واسع من المتعاطفين في الحرب رمزية النصر رغم الخسارة البشرية والمادية الكبيرة. هناك، كما في غزة، غُذي الخطاب بعبارات دينية وثقافية تؤطر الحدث على أنه “كرامة لا تُقاس بالدماء”، ما جعل التقييم الأخلاقي للنتائج معطّلاً لصالح التماهي مع الصورة الكبرى. لكن الفارق أن جمهور حزب الله كان محصورًا في بنية لبنانية مركبة، أما في حالة غزة، فإن الجمهور موزّع على الخارطة العربية والإسلامية، ويعيش عبر وسائل التواصل داخل فقاعة سيكولوجية عابرة للحدود، حيث التعاطف المشحون يُمارس دون مسؤولية، ويُفصل بين الفعل والفاعل، ويُمنح “المجاهد” تفويضًا أخلاقيًا مفتوحًا باسم العاطفة. هذا التفويض، وإن بدا مشحونًا بنُبل المقصد، يتحول — نفسيًا — إلى تجميد كامل للعقلانية السياسية، حيث تُمنح الجماعة حصانة مطلقة ضد المساءلة، ويُحاصر الوعي الجمعي بعبارات مطلقة لا تسمح بالتفكيك: “مع غزة ظالمة أو مظلومة”، “لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة”، “أنتم مشاريع شهداء”. وفي هذا السياق، لا يُنتج الجمهور المؤدلج فقط تأييدًا، بل يُعيد إنتاج الجهاز الرمزي للجماعة. هو لا يستهلك الخطاب فقط، بل يضخ فيه دماء جديدة، ويُغذي استمراره دون أن يشعر. ومع كل جولة رمزية، يزداد التصاقًا بالرمز، ويصبح أكثر حساسية لأي محاولة للخروج عنه — حتى وإن كانت من داخل الصف. وهذا النمط من الجمهور، لا يُبدي مواقف علنية، لا لأنه مؤيد بالخفاء، بل لأنه يعيش ما يمكن وصفه بـ”الانسحاب الشعوري من الجماعة دون إعلان الانفصال”. هذا الشخص قد يكون منخرطًا سابقًا في التعبئة العاطفية، وربما أيّد الفعل الصادم في بدايته، لكنه مع الوقت، وتزايد الخسائر، وتكرار المشهد، بدأ يفقد علاقته العاطفية بالرمز. ما يميّز هذا النمط أنه يُعايش ما يشبه الخذلان الهادئ. لا يثور، لا يعترض، لكنه ينكفئ. يتوقف عن مشاركة الحملات، ينسحب من دوائر النقاش، يتجنّب التماهي، وينخرط في تساؤلات داخلية لا يجرؤ على قولها. وفي الغالب، يكون محاصرًا في بيئة ترفض “النقد من الداخل”، مما يجعله صامتًا أو مدّعيًا الحياد. هذا النمط هو الأخطر على الجماعات الأيديولوجية، لأنه لا يعلن انشقاقه، لكنه ينزع الشرعية المعنوية ببطء، ويُحدث تصدعًا في قاعدة الدعم الرمزية التي تعتمد عليها الجماعة. كما أنه غالبًا ما يُشكّل “الكتلة الحرجة” التي، إن زاد عددها، تُغيّر المزاج العام دون ضجيج. فالفقدان الصامت للثقة لا يُسترجَع بسهولة، لأنه لا يُفصح عن نفسه إلا بعد فوات الأوان. يمكن تشبيه هذا النمط بجمهور “الثورات المضادة الصامتة”، الذين لم يعودوا يؤمنون بأي مشروع تغييري لأنهم أُنهكوا نفسيًا من الخيبات المتكررة. هم ليسوا ضد المقاومة كمفهوم، لكنهم باتوا يرون أن الرمز المؤدلج الذي يرفع لواءها يستهلك الناس، لا يحررهم. في تحليل سيكولوجية هذا النمط، نجد أن دافعه الأساسي ليس الغضب، بل الإرهاق النفسي والتعب الرمزي. لقد استُهلكت عواطفه مرات متكررة، وصُدمت توقعاته بواقع لا يرحم، فأصبح أكثر حذرًا من الانخراط في سرديات مطلقة، وأقل تجاوبًا مع اللغة الشعاراتية. هذا النمط، وإن بدا هامشيًا، إلا أنه المؤشّر الأوضح على دخول الرمز في طور “الاحتراق البطيء”. فإذا لم تجد الجماعة طريقة لإعادة إنتاج ثقة جديدة، فإن هذا الجمهور — الصامت، الخائف، المتردد — سيكون أول من يُدير ظهره لها حين تسمح اللحظة. في أدبيات الجماعات المؤدلجة، الفعل لا يُقاس بنتيجته المادية، بل بمفعوله الرمزي. لكن هذه المعادلة تفترض أمرًا خطيرًا: أن يظل الجمهور قادرًا على تصديق الرموز، حتى حين تفشل. وعندما تصل الأحداث إلى نقطة لا يمكن فيها استمرار هذا الإيمان — نتيجة الصدمة، أو التكرار، أو التكلفة الأخلاقية العالية — تدخل الجماعة في أخطر أطوارها: أزمة المعنى. وما حدث بعد هجوم 7 أكتوبر يُمثّل بداية هذا الطور. فبينما سعت الجماعة إلى استعادة زمام الرمزية عبر الفعل الصادم، واجهت لأول مرة انكشافًا علنيًا واسعًا، ليس فقط أمام خصومها، بل أمام جمهورها نفسه. لقد باتت الفجوة بين الشعارات والنتائج واضحة بدرجة يصعب تجميلها، وبدأت شروخ الثقة بالخطاب تتسرّب إلى الداخل. في علم النفس السياسي، لا تكون لحظة الفقدان مجرد توقف في التأييد، بل تفككًا تدريجيًا في البنية النفسية التي كانت تمنح الخطاب شرعيته. تبدأ هذه اللحظة حين يتوقف الجمهور عن إنتاج التبرير، وينتقل من الدفاع إلى التساؤل، ومن الحشد إلى الملاحظة الباردة. ومع تكرار الصدمة، يُصبح الرمز عبئًا عاطفيًا على الجماعة بدلاً من أن يكون مصدر تعبئة. وتبدأ اللغة الثابتة التي لطالما أثّرت — كلمات مثل “النصر القريب”، “الشهادة”، “المؤامرة”، “الصبر” —بالتحوّل إلى أصوات مستهلكة، تُقابل بالصمت أو السخرية أو التفلت. ونتيجة لذلك، يتشبث بعض الأفراد أكثر بالدفاع عن المعنى القديم، في حين يبدأ الكثيرون بالبحث عن سردية بديلة، لا تحمل هذا العبء الأخلاقي، ولا تبتزهم عاطفيًا. وهنا، تواجه الجماعة تحديًا نفسيًا لا سياسيًا فقط: كيف تحافظ على مركزيتها بعد أن فقدت فعاليتها الرمزية؟ كيف تُعيد تعريف الفشل دون أن تفقد ثقة جمهورها؟ وكيف تتعامل مع جمهور بدأ يرى نفسه خارج أسطورتها؟ في هذه اللحظة، لا تكون الإجابة بالضرورة مزيدًا من الأفعال الصادمة، بل قد تدفع الجماعة نحو تصعيد خطابها داخليًا ضد كل صوت ناقد، في محاولة لاستعادة الانضباط الرمزي. لكن هذا التصعيد لا ينجح إلا لفترة قصيرة. فالجماعة التي كانت تتحكم بالمعنى، تبدأ تدريجيًا بفقدانه، وتصبح أسيرة لرمز لم يعد يُقنع، لكنها لا تستطيع التخلّي عنه. هنا بالضبط يبدأ المسار الانحداري: لا لأن الجماعة هُزمت ماديًا، بل لأنها لم تعُد قادرة على إنتاج المعنى الذي قامت عليه. في هذا الطور، تسقط القيادة وتنكشف — لا لأنها فقدت الأرض، بل لأنها لم تعُد قادرة على تأويل الواقع بطريقة تُبقي الناس معها. ومع الوقت، يُصبح الرمز الذي خدمها لسنوات طويلة، حجرًا ثقيلًا في رقبتها، لأنه يذكّر الجميع بما لم يتحقق، وبما تم الوعد به ثم خذله الواقع. وحين تفقد الجماعة المؤدلجة قدرتها على التحكم بالرمز، وتبدأ السردية بالتصدع من داخلها، لا يحدث الانهيار دفعة واحدة. ما يحدث هو تحوّل بطيء، لكنه جوهري، في بنية العلاقة بين القيادة والجمهور، وبين الشعارات والواقع. هذا التحول لا يُقاس بما يُقال علنًا، بل بما لم يعد يُقال. في لحظة ما، يتوقف الجمهور عن الترديد، وتبدأ الجماعة في مخاطبة نفسها. وفي مراحل ما بعد الانكشاف، تمر الحركات الأيديولوجية بثلاثة خيارات: •الإنكار التصعيدي: حيث تردّ على الانكشاف بمزيد من الصدمة، على أمل استعادة السيطرة الرمزية. لكن هذا الخيار، مع كل تكرار، يفقد فاعليته، ويزيد من العزلة، ويدفع قطاعات أوسع من الجمهور إلى الصمت أو الانفصال. •الانكماش الدفاعي: حيث تنغلق الجماعة على ذاتها، وتتحوّل إلى طائفة خطابية صغيرة تُعيد إنتاج ولاء داخلي هش، لكنه غير قابل للتمدد أو التأثير. في هذه الحالة، تفقد الجماعة طموحها السياسي وتكتفي بالبقاء كرمز مقاوِم مُحاصَر. •المراجعة المؤلمة: وهو الخيار الأصعب نفسيًا — لأنه يتطلب تخلّيًا جزئيًا عن الخطاب المؤسس، والاعتراف بأن الرمز فَقَد جزءًا من صلاحياته. لكن هذا المسار، رغم كلفته المعنوية، هو الوحيد الذي يمكن أن يُعيد دمج الجماعة في الواقع، إن أرادت البقاء كفاعل لا كذاكرة. ولكن ما بعد انكشاف الرمز ليس بالضرورة سقوطًا فوريًا، إلا أنه يمثل لحظة انتقال من السيطرة النفسية الكاملة إلى صراع على المعنى. فالجماعة التي تفشل في التعامل مع هذه اللحظة باعتبارها فرصة لإعادة تعريف ذاتها، ستجد نفسها معزولة، حتى لو ظلت تسيطر على الجغرافيا. فالمعركة لم تعد على الأرض فقط، بل على الوعي. في النهاية، لا تقاس استمرارية الجماعات المؤدلجة فقط بقدرتها على إنتاج الأفعال، بل بقدرتها على إنتاج المعنى. وما لم تُدرك أن الجمهور تغيّر، وأن اللغة استُهلكت، وأن غزة — بوصفها رمزًا — لم تعد تكفي وحدها لإقناع وعيٍ أنهكه الفقد، فإنها ستظل تقاتل في معركة رمزية خاسرة، يُدفع ثمنها من دماء الأبرياء لا من حسابات القيادات. والمفارقة أن ما كان يُفترض أن يكون انتصارًا رمزيًا في 7 أكتوبر، قد يصبح، في وعي الجمهور، لحظة بداية النهاية — لا للمقاومة، بل لمن احتكر تمثيلها، ثم خان شروطها السياسية، وبدّد رأس مالها الأخلاقي في خطاب لا يعترف بالهزيمة. * باحث في العلوم السياسية. Salanazias@gmail.com