
ليست الحكمة وليدة الكتب وحدها، بل هي ابنة التجارب التي تنزفُ دماً، و تُخلّدُ عبر الزمان قصصاً ،فالأجداد الذين رحلوا عن أعيننا، لكنهم ما زالوا يُحدّقون فينا من وراء حُجُب التاريخ، لم يكونوا مجرد رجال يُحكمون قبضتهم على السيوف، أو يُلقي بعضهم ببعض في لهيب المعارك ، بل كانوا حكماء أدركوا بفطنتهم أن الدماء التي تُسفح في ساحات الوغى ليست ثمناً ندفعه لننال حريتنا، بل هي قسطٌ نؤديه كي لا نذوب في ذاكرة الأمم البائدة، كي لا نصير رقماً مجهولاً في سجلات الأمم المتحدة، تُورده الأقلام الجافة، ثم يطويه النسيان تحت ركام القرون. عندما تُسطّر أمّةٌ وجودها بين الأمم، فإنها لا تختار دماء أبنائها حبراً لهذا الملاحم إلا لأنها تعلم أن في كل قطرة دمٍ تُراق على تراب الوطن حرفًا من حروف الخلود. لقد فهم الأجداد هذه المعادلة العميقة فلم يُقاتلوا من أجل أن يموتوا، بل قاتلوا من أجل أن يحيا الوطن، و من أجل ألا يصير اسمه مجرد وَسمٍ في قائمة الشعوب التي انطفأت جذوتها، فما عاد أحدٌ يذكر لماذا وُجدت، أو كيف اختفت. كانوا يعلمون أن الدم ليس نهاية، بل هو عهدٌ بين الأجيال: دماء اليوم تُنبت غداً، و صرخة الشهادة تُحرّك في الأحياء إرادة البقاء. تلك الرؤية لم تكن مجرد شعارات تُرفع في ساحات القتال، بل كانت فلسفة وجودية اختزلوها في كلمات بسيطة تتناقلها الأجيال: “نُقاتل كي لا نُقاتل مرة أخرى”. فالحرب عندهم لم تكن غاية، بل كانت خط الدفاع الأخير عن حقّ الحياة الذي يُريد العدو سلبه. و ها هنا تكمن الحكمة: فهم لم يستهينوا بالدم، بل قدّروه كأغلى عملةٍ لشراء الزمن، زمن البناء، زمن الحكمة، زمن السلام. التاريخُ ساحته ليست واحدة، فبينما تنهض أممٌ من رماد حروبها لتبني صروح حضارتها، تُدفن أخرى في رمال المتحف العالمي لأنها أهدرت دماءها في معارك لم تعرف لها معنى. انظر إلى تلك الشعوب التي مزّقتها الحروب الأهلية، أو التي استسلمت لغزوات المستعمر دون أن تُقاتل حتى النفس الأخير، لقد تحوّل اسمها إلى أرقام في تقارير المنظمات الدولية: عدد الضحايا، عدد النازحين، عدد المنكوبين. أما الأجداد، فرفضوا أن يكون وطنهم رقماً، فجعلوا من كل شهيدٍ صفحةً في دستور المجد، و من كل معركةٍ فصْلًا في ملحمة الكرامة. لقد أدركوا مبكراً أن العالم لا يرحم الضعيف، و أن الأمم المتحدة ليست سوى مرآة تعكس موازين القوى. فقرّروا أن يكونوا أقوياء بحكمتهم قبل سيوفهم، و بوحدتهم قبل عددهم. لم يبنوا الحصون بالحجارة وحدها، بل بنوها بإرادة التلاحم التي حوّلت الصحاري المترامية إلى جسدٍ واحد، ينبض بالولاء للوطن. في تراب هذه الأرض المباركة، مملكة التوحيد، ليست الدماء التي سُفكت عبثًا، بل هي كالماء الذي يختلط بالتراب لينبت شجرةً عظيمة، جذورها تضرب في أعماق التاريخ، و أغصانها تُظلّل مستقبل الأجيال. لقد قدّم الأجداد الدمَ قرباناً لشجرة الوطن كي لا تذبل، و كي لا تُقطف ثمارها يدٌ غريبة، وكانوا يعلمون أن التضحيات ليست “ثمناً” ندفعه مرة واحدة، بل هي “قسطٌ” مستمر نؤديه جيلًا بعد جيل، قسطٌ من الوعي، قسطٌ من التضحية، قسطٌ من الحكمة التي تربط الماضي بالمستقبل. و حين نقرأ اليوم عن “رؤية 2030”، و نرى الأيدي تبني و تُجدّد، يجب أن نتذكّر أن هذه الرؤية ليست قطيعة مع الماضي، بل هي امتدادٌ لفلسفة الأجداد: البناء بالحكمة، و التطوير بالإرادة، و الدفاع عن الهوية بالعلم و العمل. فكما قال الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود – طيب الله ثراه –: “إنّي أرى في التعليم سبيلًا للأمم أن تَعيشَ مخلّدة”. و هكذا، حوّل الأجداد الدمَ إلى حبر، و المعركة إلى مدرسة، و الإنتصار إلى أغنية وطن. اليوم، و نحن نعيش في زمنٍ تتحوّل فيه الشعوب إلى إحصائيات، و تُختزل كرامتها في تقارير اقتصادية أو سياسية، يهمس في أذننا صوت الأجداد: “لا تبيعوا دماءكم بثمن بخس، و لا تدعوا تراب الوطن يُباع في سوق النسيان”. إنهم يذكروننا أن الحرية ليست مجرد راية تُرفع، بل هي عهدٌ نحمله في قلوبنا، نصونه بالحكمة كما صُنع بالدم. فليكن شعاركم - يا أبناء هذا الجيل - أن تكونوا حكماء كما كانوا، أن تقاتلوا معارككم بوعيٍ لا يقل عن وعي من حمل السيف، و أن تدركوا أن دماء الأمس لم تُرَق هباءاً، بل هي استثمارٌ في البقاء … البقاء كأمّةٍ تُحكى قصتها بفخرٍ في كل محفل، لا رقماً يُحصى ثم يُنسى. دماء الأجداد لم بجعل منا شعباً عابراً، بل أمةً خالدة ، فلنحمل الحكمة شعاراً، و لنُكمل سوياً المسير.