الذات بين الألم والنجاة.

إن للألم قدرة مخيفة على إذابة الذات، أو إلغائها، ولا ننكر سطوة الألم وقدرته على إحداث التغيير. ولكن مسار هذا التغيير يبقى بدفّة الإنسان، وتختلف وجهة تحويله من فرد لآخر. فحيناً يأخذنا إلى موضع الجرح، ويحبسنا هناك، عالقين للأبد، منعزلين عن الواقع، عاجزين عن رؤية الحقيقة. وحينًا يسير بنا لتهديم الوهم وتضميد الجرح، والقبول بالألم المصاحب لهذه الخطوة القاسية! حتى تطهر أرواحنا، وتصبح هذه التجربة جزءًا من الذات أو بوصلة لها. وحينًا يحجبنا عن الوصول إلى مصدره، ويعيقنا ذلك عن الوصول إلى الحياة أو لمسها. وحيناً يحيلنا إلى رماد بعد حريق ساحق، ومثل العنقاء تنهض من رمادها، نفتح أبوابًا كثيرة، باحثين عن الأمل أو المعنى. وحينًا يأخذنا الكبرياء للقفز على ذلك الألم وكبته، ليظهر لنا مثل كابوس على هيئة أرق مجهول السبب، غضب غير مبرر، اضطراب أكل يلهينا عن مصدره الحقيقي، لوم مستمر للذات أو الآخر. إن بعض الآلام النفسية قد تعترض الطريق الوحيد – الذي عرفه الإنسان للمسير – مثل نار مشتعلة، إن حاول قفزها دون أن يتدرّع بقوة وعزيمة، أو دون أن يعيرها اعتبارًا؛ فسوف تبتلعه حتمًا. ومن نعمة الله علينا أنه زودنا بعواطف – لا تتجاهلها! إنما لنصغي إليها، ونحتضنها، إنها المكمل الأساسي لمهمة العقل، والمنبّهة منه أحيانًا أخرى. وُجدت لتمكننا من تعقب مآلنا النفسي، مثل أن تنظر بعينيك للهب النار قبل أن تصل إليها، فيأخذك الخوف إلى أن تغير مسارك، وإن اضطررت للتخلي عن الوجهة أو القصد! إن الخبرة الانفعالية المؤلمة، بالنسبة إلينا، مثل تلك النار المشتعلة التي ظهرت فجأة؛ إذ اشتعلت بالظلام، فسوف تكون لك الضوء، وإن اشتعلت بالبرد، فسوف تكون لك الدفء، وإن اشتعلت دون أن تكون على علم بها، فسوف تكون لك النهاية! لا يجب علينا أن نزيح خبراتنا المؤلمة بعيدًا دون أن نطهرها، وننظر لها عن قرب، ونلمس تفاصيلها بصدق مع أنفسنا. علينا أن نعرف كيف جاء هذا الجرح، ليس بسؤال أنفسنا: لماذا أنا؟ ومن المتسبب؟ وهل أخطأت حتى أُعاقب؟ بل أن نسألها: ماذا بعد ذاك؟ وكيف أنجو من هذا بأقل الخسائر؟ وماذا أراد الله أن يمنحني من معرفة عليا أحيا بها؟ وما هي القيمة الإيمانية التي علي اكتسابها من خلال هذا الألم؟ فإن هذه الخبرة هي مصدر للنمو أكثر منها التجربة المقصودة. إن لم نطهر جراحنا، سوف نجبر على أن نبتر جزءًا من ذواتنا، وإن طُهرت جراحنا بقسوة ولوم، فإنها سوف تتسع! وتطول معاناتنا. إن الجدوى من الألم هو أن يُعاش، ثم نتعلم منه. كما أثبتت الدراسات أن تجارب الألم النفسي هي تجارب بيولوجية فطرية وجسدية، أكثر مما يتم تسميتها بالمعاناة. فمثلما تشعر بالحمى، ستشعر بالألم عند وجود معاناة داخلية أو ضغط نفسي لم تتعامل معه بطرق سليمة، أو لم تجد له متنفسًا. وإلى أن تصل لمرحلة النضج الحقيقي، عليك أن تعبر عن ألمك بصدق وشجاعة، لا بالمظلومية، إنما بروح منفتحة على الحياة، عجزت عن إدارة التجربة، وقادرة على إدارة الألم، من خلال سلوكيات يومية، وآليات نفسية / معرفية، تجعلك تختتم الخبرة بتبني حقيقة تختلف عن سابقتها، ورؤية للحياة أكثر اتساعًا مما مضى، وقدرة على مواجهة صعاب مماثلة. الجانب الأهم من هذا، أن هناك مساحة بمثابة مختبر تشريح للخبرة المؤلمة، اجترّها إلى السطح، فتخلصك شيئًا فشيئًا من ضغطها، وهي لجوء الفرد للأعمال الفنية التعبيرية مثل الكتابة – وإن لم تكن كتابة أدبية – يحل محلها المذكرات اليومية، وإن لم تكن تملك هذه الموهبة، يحل محلها التلوين، والتشكيل بالطين، والرياضات المختلفة، والسيكودراما. وتذكر بأنك قادر على أن تصنع بنفسك عكازك إلى النور، بشرط ألا تستخدمها أداة للظهور، أو أن تدفعك لتحتكم بمعايير معينة، أو حتى تأخذك لساحة منافسة، فالشرط هنا ألا تتقيد بقاعدة، أو تتعرض لأحكام مطلقة، وهذا ما سوف يساعدك لخلق متسع من الحرية النفسية، وفرصة جديدة للنمو.