المملكة تستثمر علاقاتها بالهند وباكستان لصنع السلام..

علاقات تاريخية وثقل دبلوماسي نزعا فتيل الأزمة.

في عالمٍ تتقاطع فيه السياسة بالتاريخ، والمصالح بالأعراف، برزت المملكة العربية السعودية كقوة دبلوماسية قادرة على التوسط وصنع التهدئة بين الدول المتنازعة، مستثمرة إرثًا من العلاقات التاريخية العميقة، وثقلاً سياسيًا متناميًا، وفي المناوشات المتكررة بين الهند وباكستان، لطالما وظّفت المملكة علاقاتها المتجذّرة مع البلدين لصالح السلام، لتقدّم نموذجًا فريدًا في الدبلوماسية المتّزنة، غير المنحازة، وفي الأزمة الأخيرة وجدنا المملكة تتحرك بسرعة وفاعلية، بتوجيهات من قيادتها الرشيدة، مستثمرة مكانتها الإقليمية والدولية وعلاقاتها المتينة مع كل من نيودلهي وإسلام آباد، لتكون الدولة الوحيدة التي أوفدت مبعوثًا خاصًا إلى الطرفين، وسعت عبر دبلوماسية هادئة ورفيعة المستوى إلى خفض التوتر ونزع فتيل التصعيد، في موقف أكد مجددًا أن الرياض لم تعد مجرد طرف إقليمي، بل صوت توازن يحظى بثقة الخصوم قبل الحلفاء، ويُحسن توظيف رصيده التاريخي لبناء جسور السلام في أكثر اللحظات حساسية. العلاقات السعودية الهندية: روابط وشراكة بدأت ملامح العلاقات بين المملكة والهند منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود (طيّب الله ثراه)، حين بدأت الوفود الهندية المسلمة تتوافد إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، حاملة معها الاحترام الكبير لما تمثّله المملكة من ثقل ديني وسياسي، وقد شكّلت هذه العلاقات الدينية بوابةً لتطور الروابط الاقتصادية والثقافية، وسرعان ما تحولت إلى شراكة سياسية مبنية على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وفي العقود التالية، تعززت هذه العلاقات عبر الزيارات المتبادلة والاتفاقيات الاقتصادية، وكان من أبرز محطاتها زيارة رئيس الوزراء الهندي أتال بيهاري فاجبايي إلى الرياض، في عام 2001م، فاتحًا بابًا لحوار سياسي أكثر انفتاحًا بين البلدين، ثم جاءت بعدها زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله) إلى الهند في عام 2006م، والتي وُصفت آنذاك بالتاريخية، وتمخضت عنها شراكة استراتيجية بين المملكة والهند، وأعقبها زيارة رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ في عام 2010م إلى المملكة لتُتوَّج بتوقيع “إعلان الرياض”، الذي وضع إطارًا واضحًا للشراكة الاستراتيجية، وأرسى دعائم التعاون في مجالات الأمن والدفاع والطاقة، كما قام أمير الرياض آنذاك، الأمير (الملك) سلمان بن عبدالعزيز، إلى الهند في الفترة من 26 إلى 28 فبراير 2014م، وخلال هذه الزيارة التقى بكل من الرئيس الهندي براناب موكيرجي، ونائب الرئيس محمد حامد أنصاري، ورئيس الوزراء مانموهان سينغ، حيث تم توقيع مذكرة تفاهم للتعاون الدفاعي بين البلدين، كما زار مسجد الملك فيصل في العاصمة إسلام آباد وصلى ركعتين في المسجد ودون كلمة في دفتر الزيارات: “الحمد لله الذي وفقني لزيارة مسجد الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله وأسأل الله له الأجر لسعيه في بناء هذا الصرح الإسلامي في مدينة إسلام آباد العزيزة عاصمة باكستان الغالية وأسأل الله التوفيق للجميع .. سلمان بن عبد العزيز آل سعود .. 3 / 1 / 1419 هـ - 29 / 4 / 1998 م”. وكانت هذه الزيارة خطوة مهمة في تعزيز العلاقات الثنائية بين المملكة والهند، وأسهمت في تعزيز التعاون في مجالات الطاقة، والتجارة، والأمن، والتبادل الثقافي. كما تم الاتفاق على زيادة الاستثمارات المتبادلة وتعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية، ومع صعود رئيس الوزراء ناريندرا مودي، شهدت العلاقات زخمًا غير مسبوق، حيث شكّلت زيارته الأولى إلى المملكة في 2016 فرصة لتوقيع اتفاقيات نوعية شملت التكنولوجيا، والبحث العلمي، والتجارة، وهو ما عكس تطلع الطرفين إلى توسيع آفاق الشراكة بما يتجاوز النطاق التقليدي. الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى ظلت متواصلة حيث أعادت تشكيل مسار التعاون الثنائي على أسس استراتيجية متينة، حيث جاءت زيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان (حفظه الله) إلى نيودلهي في عام 2019م، لتعلن انتقال العلاقات من مستوى التعاون إلى مستوى الشراكة الشاملة، حيث تم توقيع اتفاقيات في مجالات الدفاع والطاقة والتكنولوجيا، وفي نفس العام زار ناريندرا مودي المملكة مرة أخرى، وأسفرت تلك الزيارة عن إنشاء “مجلس الشراكة الاستراتيجية العليا”، الذي يُعد آلية مؤسسية للتنسيق الثنائي في قضايا السياسة والأمن والاستثمار والطاقة. كما اتفق الجانبان على توجيه استثمارات سعودية ضخمة نحو مشاريع البنية التحتية والطاقة في الهند، في وقت شهدت فيه علاقاتهما تنسيقًا لافتًا ضمن مجموعة العشرين، خصوصًا خلال رئاسة المملكة للمجموعة عام 2020، وتحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (حفظه الله)، شهدت العلاقات السعودية الهندية أوجها، خاصة في ظل سعي البلدين لتعزيز الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب وتحقيق التنمية المستدامة، كما أصبح العمال الهنود يشكلون شريحة واسعة من القوى العاملة في المملكة، بما يعكس حجم التبادل الإنساني والاقتصادي العميق بين البلدين. العلاقات السعودية الباكستانية: إخوّة ومكانة خاصة تجمع المملكة وباكستان علاقات مميزة ذات جذور تاريخية عميقة بدأت منذ تأسيس باكستان عام 1947م، حين كانت المملكة من أوائل الدول التي اعترفت باستقلالها، ما شكل بداية مرحلة جديدة من التعاون الأخوي والمشترك بين البلدين. هذه العلاقات اتسمت بمتانة الروابط الدينية والثقافية التي تربط الشعبين، بالإضافة إلى المصالح الاستراتيجية المشتركة التي تطورت عبر الأجيال. فمنذ اللحظات الأولى للاستقلال، دعمت المملكة باكستان في مشوارها السياسي والاقتصادي، إذ كانت تعتبرها شريكًا حيويًا في تعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة. عند تأسيس باكستان، كان للملك عبد العزيز (طيّب الله ثراه) دور بارز في تعزيز العلاقات بين البلدين، وهو ما تمثل في أولى الزيارات الرسمية المتبادلة بين قيادتي البلدين، وفي هذه المرحلة، كانت المملكة حريصة على دعم باكستان سياسيًا وعسكريًا، خصوصًا في القضايا المتعلقة بالمسائل الإسلامية في القارة الهندية. كما أن العلاقات الثنائية شهدت تنسيقًا مستمرًا في قضايا الحجاج، حيث كانت المملكة تسهل وصول الحجاج الباكستانيين إلى الأراضي المقدسة، ما شكل بداية لتعاون مشترك في العديد من القضايا الإسلامية، ومع تولي الملك فيصل الحكم في بداية الستينيات، بدأت العلاقات السعودية الباكستانية في التطور بشكل أكبر. شهدت هذه الفترة تعزيزًا كبيرًا في التعاون العسكري والاقتصادي بين البلدين، وخلال حرب الهند وباكستان في عام 1965م قدمت المملكة دعمًا مهمًا لباكستان في مواجهة التهديدات الهندية، وتواصل هذا الدعم في فترة السبعينيات أثناء الحرب الهندية الباكستانية الثانية، حيث لعبت المملكة دورًا كبيرًا في توفير المساعدات الاقتصادية والمادية لباكستان. وقد انعكست هذه العلاقات المتميزة في العديد من الزيارات المتبادلة بين القيادتين. ففي عام 1969م، قام الملك فيصل بزيارة باكستان حيث جدد تأكيده على الدعم السعودي المستمر لباكستان في مختلف الميادين. كما قام الرئيس الباكستاني آيوب خان بزيارة المملكة في عام 1966م، حيث تم توقيع العديد من اتفاقيات التعاون في مجال النفط والاقتصاد، مما عزز من قوة العلاقات بين البلدين، وفي عام 2006م، قام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بزيارة تاريخية إلى باكستان، وهي الزيارة التي تُعتبر نقطة فارقة في مسار العلاقات بين المملكة وباكستان، كانت هذه الزيارة من أهم الزيارات الدبلوماسية بين البلدين، حيث تم خلالها توقيع اتفاقيات تعاون في العديد من المجالات، منها الطاقة، والتعليم، والصحة. وتُعد هذه الزيارة علامة بارزة في تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وإسلام آباد، وإثر الزيارة، قدم العديد من المسؤولين الباكستانيين تصريحات تُشيد بالدور الكبير الذي لعبته المملكة في دعم باكستان. على سبيل المثال، أشاد الرئيس الباكستاني في ذلك الوقت، برويز مشرف، بالدور الريادي للمملكة في المنطقة، واصفًا إياها بأنها “الداعم الأول لباكستان في جميع المحافل الدولية”. في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، تواصلت العلاقات السعودية الباكستانية بمزيد من النمو والتطور في مختلف المجالات، وفي عام 2019م، قام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بزيارة باكستان، وهي الزيارة التي كانت محورية في تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين. حيث تم توقيع اتفاقيات ضخمة بقيمة 20 مليار دولار، شملت الاستثمارات في مشاريع البنية التحتية والطاقة، بما في ذلك مشاريع للطاقة المتجددة وتنمية البنية التحتية في باكستان. هذه الزيارة لم تكن الأولى، فقد سبقتها زيارات عديدة من قبل كبار المسؤولين السعوديين لباكستان، حيث تم التباحث في العديد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، وامتدت العلاقة بين البلدين لتشمل التعاون في مجالات الثقافة والرياضة، فالمملكة تعتبر أحد أكبر مستثمري البنية التحتية الرياضية في باكستان، حيث تم افتتاح العديد من المشاريع الرياضية المشتركة في إطار خطة التعاون الطويلة الأمد، إضافة إلى ذلك، تواصل المملكة دعمها لباكستان في مختلف المحافل الدولية، سواء في منظمة التعاون الإسلامي أو في الأمم المتحدة، حيث حافظت المملكة على موقف ثابت من دعم باكستان في قضاياها المصيرية. ثقل دبلوماسي ينزع فتيل الأزمة مع تكرار التوترات الحدودية بين الهند وباكستان، خاصة بعد أحداث كشمير في عام 2019م، برزت المملكة كطرف محوري في تهدئة الأوضاع، وبحكم علاقاتها القوية والمتوازنة مع الطرفين، نجحت الدبلوماسية السعودية في لعب دور الوسيط المقبول، حيث نقلت الرسائل وفتحت قنوات التفاهم دون انحياز، وقد لقي هذا الدور إشادة دولية، لا سيما بعد تدخلات المملكة التي ساعدت في وقف التصعيد، والتشجيع على العودة للحوار. لقد لعبت المملكة دورًا محوريًا في مساعدة باكستان والهند على تجاوز الأزمات في مناسبات سابقة، على سبيل المثال في عام 1965م، عندما نشبت حرب بين البلدين، تدخلت المملكة عبر القنوات الدبلوماسية لتوجيه الطرفين نحو وقف إطلاق النار، ما أسهم في تجنب المزيد من التصعيد، وقامت المملكة بتوفير وسيلة لتبادل الرسائل بين الحكومتين، ما ساعد على تسوية الأزمة مؤقتًا دون توسيع نطاقها، وما جعل دور المملكة في تلك المناسبات محط إعجاب عالمي هو قدرتها على التأثير دون التدخل العسكري أو الانحياز لأحد الأطراف، فالدور السعودي لم يقتصر على تبني مواقف عامة، بل كان يتسم بالسرية والخصوصية في المحادثات، الأمر الذي سمح لكلا الطرفين بالحفاظ على ماء الوجه الدبلوماسية السعودية لم تقتصر فقط على المسار الثنائي بين الهند وباكستان، بل شملت أيضًا التحركات الدولية لإشراك المجتمع الدولي في حل الأزمة، وهو ما تجلى في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ففي كل خطوة، حرصت المملكة على أن تظل حلقة وصل بين الطرفين، موجهة رسائل السلام وضرورة الاستقرار، وهو ما مهد الطريق لعودة الطرفين إلى الحوار بعد فترات من التوتر الشديد، وهو ما يعكس رؤية المملكة في الحفاظ على السلام والاستقرار الإقليمي، ويعزز مكانتها كداعم رئيسي للسلام في منطقة جنوب آسيا. وسيط نزيه وصانع سلام ما يميز الدور السعودي أنه ينبع من سياسة قائمة على الاعتدال والحكمة، دون السعي وراء المكاسب المؤقتة أو التوظيف السياسي، فالمملكة، التي تربطها بالبلدين علاقات تاريخية متينة، تدرك أن استقرار المنطقة لا يتحقق إلا من خلال الحوار، وتغليب المصالح المشتركة على الخصومات، والمتابع للسياسة الخارجية السعودية منذ عهد الملك المؤسس وحتى اليوم، يجد أن المملكة لطالما استثمرت قوتها الناعمة، وحضورها الروحي والاقتصادي، في خدمة السلام، بعيدًا عن الاستعراض الدبلوماسي. وقد مكّنها هذا النهج من أن تكون لاعبًا أساسيًا في وساطات إقليمية ودولية شتى. تتجه المملكة اليوم، في ظل رؤية 2030، إلى توسيع أدوارها الإقليمية والدولية، ليس فقط كقوة اقتصادية، بل كقوة تصنع التوازن وتدعم التنمية في محيطها الأوسع. ومن خلال علاقاتها مع الهند وباكستان، لا تكتفي السعودية بالوساطة الدبلوماسية، بل تسعى لبناء شراكات ثلاثية تقوم على المشاريع المشتركة والاستثمارات العابرة للحدود، بما ينعكس على أمن واستقرار جنوب آسيا والمنطقة العربية على حد سواء، المملكة اليوم تؤمن أن الدبلوماسية ليست فقط نزع فتيل الأزمات، بل بناء جسور المستقبل، وتعزيز مقومات السلام الحقيقي، الذي يقوم على التعاون، والعدالة، والمصالح المتبادلة.