الهولوكوست -بالطريقة التي وصلت إلينا- ما زالت تستفز ضمير العالم، وعلى مأساويتها فإنها نالت من تعاطف العالم ما لم تنله مآس أُخرى لا تقل في كارثيتها عن مأساة الهولوكوست، وككل الأحداث الضخمة في العالم هناك من يستفيد من كل كارثة، كأغنياء الحروب مثلا. وهنا هل لنا أن نتساءل: من كان أكثر المستفيدين من كارثة الهولوكوست؟ لا أصح من العبارة التي تقول: إن الصهاينة كانوا أكثر المستفيدين من الهولوكوست، ويمكن جمع أدلة كثيرة على ذلك، منها مثلا الصفقة التي وقعها بن جوريون مع المستشار الألماني أديناور في سبتمبر ١٩٥٢والذي يقضي بأن تدفع ألمانيا لإسرائيل مبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون مارك ألماني على شكل بضائع يتم توريدها خلال ١٢ سنة، وفي ١٩ يونيو ١٩٦٣ تم رفع مقدار التعويضات الألمانية لإسرائيل إلى أربعين ألفا ومئتي مليون مارك ألماني، إي أن حجم التعويضات زاد أكثر من عشرة مرات في عملية ابتزاز واحدة، وإذن فإن ألمانيا الغربية دفعت لكل صهيوني مقيم في فلسطين عشرين ألف مارك ألماني نقدا، وفوقها هدايا السلاح. لم يكن المال هو الشيء الوحيد الذي استثمرت الصهيونية فيه الهولوكوست، ولفهم الموضوع فإنه يجب أن نتذكر أن الصهاينة بين اليهود لم يكونوا حتى صعود النازية إلا أقلية، وحين عُقد مؤتمر بال في سويسرا عام ١٨٩٧، وتبني مشروع الوطن القومي في فلسطين، حينها عقد يهود أمريكا في مونتريال مؤتمرا رفضوا فيه مقررات بال رفضا باتا، قبل بال كان يهود أمريكا وأوروبا الغربية قد أصبحوا إندماجيين، بمعنى أنهم عملوا على هجر ثقافة الغيتو والاندماج في المجتمعات الأوروبية، وقد اعتبروا أن دعوة الصهاينة للرحيل إلى فلسطين ستعيد تذكير الأوروبيين بأن اليهود غريبون على المجتمع الأوروبي، وهذا يعرضهم للاضطهاد، ولذا فإن الحركة الصهيونية قد احتاجت إلى بذل الكثير من الجهد لكي تقنع اليهود بأطروحاتها، وقد استفادوا من صعود النازية في ترويج فكرة أن اليهود مرفوضون في المجتمعات الغربية و أن عليهم أن يهاجروا إلى فلسطين، وقد توجت الصهيونية نجاحها بمؤتمر بالتيمور الذي عُقد في ١٩٤٢ والذي تبني فيه يهود أمريكا الحركة الصهيونية. تحول اليهود نحو الصهيونية كان ثمرة جهد ومثابرة والكثير من اللاأخلاقيات.. كتاب الدكتور عبد الرحيم أحمد حسين يقدم صورة نفهم من خلالها هذه العلاقة، والكتاب في الأصل رسالة دكتوراة اعتمد صاحبها على الوثائق الغربية. وقد طبع عام ١٩٨٤. تقول الموسوعة اليهودية: إن عهد الإرهاب في ألمانيا ضد اليهود بدأ عام١٩٣٣، أي في العام الذي تسلم فيه الحزب النازي الحكم في ألمانيا، وكان ذلك عندما أُلقي القبض على ٤٠٠ مواطن يهودي من الأغنياء والبارزين، عوملوا بقسوة في مدينة نورمبرج مقر الحزب النازي. في ذلك العام أعلنت معظم قوى العالم موقفها المناهض للنازية، وأعلنت معظم المنظمات اليهودية مقاطعتها وإدانتها للنازية، إلا أن القيادة الصهيونية على عكس ما هو متوقع أعلنت الترحيب بمجيئ هتلر، فقد أعلن حاخام برلين الصهيوني في ٣٠ يناير ١٩٣٣م أن حكم هتلر هو بداية عودة اليهود إلى اليهودية. في ذلك العام كان عدد يهود ألمانيا يزيد قليلا على نصف مليون، وكانت الفكرة الصهيونية تلقى معارضة من يهود ألمانيا، آنذاك لم يكن عدد الصهاينة بين اليهود الألمان يزيد على ٢% منهم. وفي تقرير الصندوق التأسيسي الصهيوني في دورته الرابعة والعشرين عام ١٩٣٤م اعتبر أن اليهود في ألمانيا يشكلون عقبة رئيسة في طريقه. ولذا فإن المنظمة الصهيونية رأت في الصعود النازي ما يتيح لها نشر الأفكار الصهيونية، وجمع المال لصالح الحركة الصهيونية، ولم يخطر ببال القيادة الصهيونية الإحتجاج على الاضطهاد النازي، أو إنقاذ اليهود منه. على العكس من ذلك قامت اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية بمنع إصدار أي قرار يدعو إلى مقاطعة البضائع الألمانية، وذلك خلال المؤتمر الصهيوني الثامن عشر المنعقد عام ١٩٣٣. كوفئت المنظمة الصهيونية بأن سمح النازيون للاتحاد الصهيوني الألماني بممارسة نشاطه علنيا وبحرية تامة، بينما حظرت التعامل مع الإتحاد المركزي ليهود ألمانيا، وهو التنظيم المعارض للصهيونية. وكذلك سُمح للاتحاد الصهيوني بجمع التبرعات ونشر الكتب الصهيونية، وزادت أعداد مجلته من خمسة آلاف نسخة إلى أربعين ألف نسخة. وفي نفس العام تم توقيع اتفاقية النقل المتبادل بين وزارة الاقتصاد الألمانية وممثل الإتحاد الصهيوني. وتهدف الاتفاقية إلى منح اليهود الألمان الذين ينوون الهجرة إلى فلسطين الفرصة لتحويل أموالهم. وعليه تأسست شركة هافارا بهدف تحويل رؤوس أموال المهاجرين اليهود إلى فلسطين على شكل بضائع ألمانية. سمح النازيون للصهاينة باختيار من تريدهم من اليهود ليهاجروا إلى فلسطين، اختاروا الفئة الرأسمالية. وقد روجت الاتفاقية للبضائع الألمانية بأسعار تمنع من المنافسة. في عام ١٩٣٥ صدرت قوانين نورمبرج التي حرمت التزاوج بين الألمان واليهود، وصادف ذلك موعد إعلان المؤتمر الصهيوني التاسع عشر، رفض المؤتمر إلغاء اتفاقية النقل المتبادل بأغلبية ساحقة. وهكذا وبين عامي ١٩٣٣ و١٩٣٩ تم تهجير ٦٠ الف رأسمالي يهودي ألماني إلى فلسطين، وتم تحويل حوالي ٤٠ مليون دولار إلى فلسطين على شكل بضائع ألمانية، أي بمعدل ١٣٥٠ جنيه فلسطيني لكل مهاجر يهودي. بدأ هناك خلاف في الأوساط النازية حول الاستمرار في تطبيق اتفاقية النقل حوالي عام ١٩٣٧، قبل ذلك امتنع النازيون عن إمداد الثورة الفلسطينية ١٩٣٦ بالأسلحة، عام ١٩٣٨ ظهرت اتجاهات نازية تطالب بإلغاء الاتفاقية.. ولكن هتلر شخصيا تدخل للإبقاء على هذه الاتفاقية، واستمر العمل بها حتى نهاية عام ١٩٣٩. أحس المسؤولون الصهاينة بالخطر على اتفاقية النقل، ولذا فقد استعملوا أساليب جديدة تعزز مواقعها في ألمانيا على حساب اليهود المضطهدين، فبدأوا في التعاون مع جهاز الجستابو النازي، وذلك عندما قابل بار جلعاد - مندوب منظمة الموساد الصهيونية المسئولة عن الهجرة اليهودية غير الشرعية إلى فلسطين- الضابط النازي إيخمان عام ١٩٣٨م في مدينة فيينا، حيث كان إيخمان يعمل مسؤولا عن مكتب تهجير اليهود، طلب جلعاد من إيخمان إقامة معسكرات لتدريب الشباب اليهودي في فيينا قبل ترحيلهم إلى فلسطين، وقد وافقه إيخمان على طلبه. في تلك الأثناء صرح بن جوريون قائلا: “إذا خُيرت الصهيونية بين الشعب اليهودي والدولة اليهودية فإنها ستختار الدولة اليهودية”، وهذا التصريح يوضح لماذا لم تهتم المنظمة الصهيونية بمؤتمر إيفان سنة ١٩٣٨ والذي عُقد لحل مشكلة اللاجئين، وقد وضع خططا لتهجير اللاجئين في منطقة كمبرلي في غرب أستراليا، كان هذا المشروع كفيلا لو نُفذ بإنقاذ مئات الألوف على الأقل من يهود ألمانيا. ورغم إلغاء اتفاقية النقل عام ١٩٣٩ إلا أن التعاون النازي الصهيوني استمر رغم الهولوكوست حتى عام ١٩٤٤، العام الذي عقد فيه كستنر الصهيوني مع إيخمان النازي صفقة لم يشهد لها التاريخ مثيلا؛ إذ ارتضى كستنر تسهيل مهمة قتل بني جلدته من اليهود مقابل إنقاذ عدد محدود من أقربائه وبعض الصهاينة. السؤال يبقى مطروحا، وهو عن سبب صمت المنظمة الصهيونية؟ الاحتمال الأول: هو عدم العلم بما يجري، وهذا أمر يسهل تفنيده بمراجعة الصحف البريطانية والأمريكية التي امتلأت بالتقارير عن الهولوكوست. لا يمكن ألا تكون القيادات الصهيونية جاهلة تماما بما يجري، من المعلوم أن منظمة الموساد الصهيونية خلال نفس الفترة قد أرسلت عملاءها إلى كل أوروبا، فكيف غفل هؤلاء عن الهولوكوست. وأخيرا جاء اعتراف حاييم لينداو عضو الكنيست الإسرائيلي، بأن الوكالة اليهودية كانت تعلم عن إبادة اليهود، هذه حقيقة رغم أن أبعاد الإبادة لم تكن معروفة، ولكن حقيقة الإبادة كانت معروفة للأوساط الصهيونية في الولايات المتحدة، وجميع هؤلاء لم يلتزموا الصمت فحسب، ولكنهم صمتوا عمدا، بل وأخفوا ما يعلمونه. استطاعت المنظمة الصهيونية أن تدخل في روع العالم، بعد انتهاء الحرب، أن معظم مشردي أوروبا كانوا من اليهود، في حين أن اليهود لم يشكلوا أكثر من ٢٠%. وقد كشف فريدريك مورجان الجنرال البريطاني رئيس منظمة U.N.R.R.A. وهي المؤسسة التي عملت على إنقاذ مشردي العالم آنذاك، كشف مورجان الوسائل التي اتبعتها المنظمة الصهيونية في تعبئة اليهود من خلال الدعاية المكثفة وجعلهم يطالبون عن كره بالذهاب إلى فلسطين، أشار مورجان إلى هذه الأنشطة اللاإنسانية للمنظمة الصهيونية في مؤتمر صحفي عام ١٩٤٦ في فرانكفورت. تعرض الرجل بعدها لحملة صهيونية قالت: إنه هتلر جديد، وفقد الرجل منصبه كرئيس لمنظمة إنسانية غير سياسية. والغريب أن الولايات المتحدة لم تهتم في حينه بما حدث لليهود، بل وفرضت قيودا صارمة علي هجرة اليهود إليها أثناء الحرب، بينما طلبت من السويد تسهيل إجلاء يهود رومانيا عبرها إلى فلسطين خلال نفس الفترة التي قبلت فيها مهاجرين من كوبا والبرازيل. وقد نجح الصهاينة في تنظيم مؤتمر بلتيمور في أمريكا في مايو ١٩٤٢، أي خلال استعار الإبادة، الا أن المؤتمر انصرف إلى التوصية بإنشاء جيش يهودي ومنح التسهيلات للوكالة اليهودية لكي ترعى الهجرة اليهودية لفلسطين. لم تتضمن توصيات المؤتمر أي كلمة بشأن اليهود في أوروبا، هل كان ذلك مصادفة؟ أما ما ادعته المنظمة الصهيونية من العوز المادي الذي أعاقها عن تهجير يهود ألمانيا فتكذبه الأرقام التي فصلها الكاتب، وكانت أرقاما فلكية بتقديرات زمنها، وكان من الممكن إنفاقها على إنقاذ يهود المانيا. كما يقدم الكتاب دلائل على عمل المنظمات الصهيونية لإفساد مشروع روزفلت الذي كان يعمل على نقل نصف مليون من يهود أوروبا إلى أمريكا. أيضا وقف مردخاي برايز حاخام السويد الصهيوني، ضد قرار للبرلمان السويدي عام ١٩٣٩، يسمح القرار بمنح تأشيرات دخول لعشرات الآلاف من اليهود الألمان، وعلل موقفه المعارض بأن تنفيذ هذا القرار سيؤدي إلى ظهور اللاسامية في بلد لم تشهدها أبدا، وقد نجح هذا الحاخام في تعطيل قرار البرلمان السويدي. كل ذلك يوضح أن المنظمة الصهيونية تعمدت عدم الالتفات لما يجري لتحقق هدفا وهو جلب القادرين من اليهود إلى فلسطين، وجلد ضمير العالم بخبث لتستثمر في جلب الدعم للصهيونية. ما عرضناه ليس إلا شيئا يسيرا من تعاون المنظمة الصهيونية مع النازية، ورفضها أكثر من محاولة لإنقاذ اليهود، الصحفي بن هشت أصدر كتابا بعنوان “الغدر” عما عُرف فيما بعد بقضية كستنر، وكيستنر هذا ضحى بكل يهود المجر البالغ عددهم ثلاثة أرباع المليون مقابل أقل من ألفين من الشباب يأخذونهم الى فلسطين، التقت النازية مع الصهيونية في التخلص من الضعفاء والعجزة لتستبقي الشباب. تاريخ أسود من الحيل اللاأخلاقية التي تلظى فيها شعبنا في فلسطين، ولكن اليهود أيضا نالهم منها أوفر النصيب.