الدور السعودي في أزمة باكستان - الهند..

الدبلوماسية المتزنة.

في لحظة فارقة من التحولات الإقليمية تتقاطع الحسابات الجيوسياسية وتتصاعد الحاجة إلى وساطات مسؤولة قادرة على تجسير الفجوات واحتواء التوترات. وسط هذا المشهد المتداخل تبرز المملكة العربية السعودية بوصفها طرفًا متوازنًا يجمع بين الفاعلية والاعتدال ويتحرّك بدبلوماسية عقلانية تستند إلى إدراك دقيق لطبيعة المرحلة وتعقيدات التوازنات حيث باتت العلاقات الإقليمية بحاجة إلى مقاربات وسطية ذات مصداقية ووزن وثقل سياسي يمكنها أن تعيد ضبط الإيقاع السياسي. ويأتي إعلان الخارجية الباكستانية عن مشاركة السعودية إلى جانب الولايات المتحدة وتركيا في محادثات وقف إطلاق النار ليعكس حجم التحول في طبيعة الدور السعودي إقليميًا والذي بات يُنظر إليه بوصفه عنصر استقرار ومرجعية دبلوماسية مؤثرة في إدارة النزاعات والتوازنات. تأتي هذه المشاركة السعودية انسجامًا مع سياسة خارجية تتسم بواقعية استراتيجية مدروسة ترتكز على توازن دقيق بين الحفاظ على المصالح العليا للمملكة العربية السعودية وتوسيع دائرة تأثيرها في المنطقة والمساهمة الفعلية في صياغة حلول مستدامة وواقعية للنزاعات طويلة الأمد. لم تعد السعودية كدولة مؤثرة تتعامل مع الأزمات بمنطق رد الفعل بل أصبحت تُعيد تشكيل ملامح الحراك السياسي من خلال أدوات تجمع بين التأثير الدبلوماسي والقوة الاقتصادية والقدرة على احتواء التعقيدات السياسية والصراعات الإقليمة بروح من المسؤولية المتزنة. في هذا الإطار لم تكن مشاركة الرياض في المحادثات مجرد حضور رمزي بل كانت تعبيرًا عن نضج في الرؤية وفاعلية في الأداء واستعداد لتقاسم الأعباء ضمن بيئة دولية شديدة التقلب فقد تمكنت السعودية من الحفاظ على شبكة علاقات متوازنة مع القوى الكبرى مع قدرتها على التواصل مع مختلف الأطراف الإقليمية بما في ذلك تلك المنخرطة بشكل مباشر في النزاع أو تلك التي تحمل أجندات متباينة. إن ما يميز الدور السعودي هنا هو أنه لا يأتي ضمن اصطفافات متحيزة أو أجندات خفية بل يستند إلى مبدأ «الشراكة من أجل الاستقرار» وهو مبدأ بات يحكم السياسة الخارجية السعودية في ملفات شديدة الحساسية. كما أن السعودية باتت تمتلك أدوات تحليلية ومؤسسات دبلوماسية متقدمة قادرة على التعاطي مع التحديات الدولية بلغة احترافية توازن بين المبادئ والثوابت. الدور السعودي في هذه المحادثات يعكس أيضاً تحوّلًا نوعيًا في موقع المملكة داخل السياق الإقليمي. حيث لم تعد الرياض فقط مركزًا اقتصاديًا مؤثرًا بل غدت أيضًا طرفًا مركزيًا في إدارة التوازنات السياسية وتبني ملفات السلام بما يضعها في موقع القيادة الهادئة لا الصدامية. وهي بذلك تساهم في إعادة تعريف رؤية سعودية تجمع بين متطلبات السلام وتحريك أدواته الدبلوماسية والسياسية. لا يمكن هنا فصل هذا الدور عن الرؤية الشاملة التي تتبناها المملكة العربية السعودية في إطار «رؤية السعودية 2030»، حيث أصبح من الواضح أن الاستقرار الإقليمي يُعد أحد الشروط الأساسية لنجاح مشاريع التحول الاقتصادي والتنمية المستدامة. فالسعودية تدرك أن السلام لم يعد مجرد مطلب إنساني أو أمني بل ضرورة استراتيجية من أجل تأمين وجذب الاستثمارات وتفعيل الشراكات الدولية. تتحرك السعودية في هذا السياق من منطلق أن مقاربة الأزمات الإقليمية يجب ألا تقتصر على الأبعاد العسكرية أو السياسية المجردة فالسعودية وهي تتناول هذه الملفات المعقّدة تفعل ذلك من موقع المسؤولية لا المجاملة وبالمشاركة في مفاوضات السلام تسعى إلى تقليل المخاطر المرتبطة بالتصعيد العسكري في المنطقة لضمان تدفق آمن ومستمر للطاقة ليس فقط للمملكة ولكن للعالم بأسره. وقد أثبتت في أكثر من مناسبة أنها لا تكتفي بالمبادرات النظرية بل يمكن عملياً أن تخلق مساحات تفاوض أكثر جدية وهذا يبرز أهمية دور المملكة في المساهمة في مفاوضات السلام بين باكستان والهند إذ أن أي تصعيد في التوترات بين البلدين قد يهدد الاستقرار الإقليمي مما قد يؤدي إلى تعطيل تدفق الطاقة عبر الممرات الحيوية مثل مضيق هرمز والخليج العربي. ومن هذا المنطلق فإن وقف إطلاق النار لا يُنظر إليه كغاية نهائية بل كبداية لمسار أوسع من الأمن الشمولي بالمنطقة وبين البلدين باكستان والهند على وجه التحديد. وتعزز هذه المقاربة من فرص نجاح التحرك السعودي في ترسيخ وقف إطلاق النار حيث يُتوقع أن تلعب دورًا محوريًا في مراقبة التنفيذ وتوفير الضمانات للأطراف ودعم مسارات الحوار السياسي الموازي. وبقدر ما يتقدّم المسار التفاوضي فإن المملكة العربية السعودية ستظل حاضرة من أجل الدفع باتجاه سلام شامل يعالج جذور النزاع لا فقط مظاهره العسكرية. إن نجاح هذه المحادثات سينعكس على أكثر من مستوى. حيث إقليميًا، سيُعيد رسم أولويات بعض القوى كما سيساهم في خفض منسوب التوتر وفتح آفاق أمام مقاربات أكثر واقعية في ملفات متداخلة من اليمن إلى القرن الإفريقي. أما دوليًا فإن الدور السعودي سيتكرّس بوصفه شريكًا لا غنى عنه في جهود حفظ السلام وهو ما قد يفتح أمام المملكة آفاقًا جديدة على المستوى الدولي سواء من خلال دعمها للمبادرات الأممية أو عبر توسيع تحالفاتها الاستراتيجية. إن ما بعد هذه المحادثات لن يكون مجرد اختبار لصدقية الأطراف بل سيكون اختبارًا لجدوى الدبلوماسية الإقليمية الجديدة التي تقودها السعودية. فإذا ما أُحسن البناء على ما تم التوصل إليه فإن المنطقة قد تشهد تحوّلات إيجابية تعيد الاعتبار لمنطق العقل وتُعيد إنتاج مفهوم الأمن المشترك وتؤسس لمرحلة من الاستقرار القائم على الشراكة لا الهيمنة. وهكذا فإن الدور السعودي في هذه المحادثات لا يُعد تفصيلًا في مشهد سياسي متشابك بل هو مركز ثقل حقيقي في معادلة تبحث عن توازن جديد. لقد أثبتت السعودية أنها قادرة على صناعة الفارق ليس فقط عبر ما تملكه من أدوات بل عبر ما تبنّته من رؤية تضع السلام في صميم أولوياتها وما نشهده اليوم ليس فقط جهودًا لوقف إطلاق النار بل محاولة سعودية جادة لإعادة تعريف دور الدولة العربية في صنع السلام بوصفها صانعً للواقع. * باحثة وكاتبة سعودية.