في ديوان (أفتش الحزن .. يخبئك الفرح) للشاعر عبد الإله البابطين..

تمثّلّ لحزن مقيم ولوعة شجيّة في مغالبة وانكسار وألوان من التعبير والتصوير.

السمة الغالبة على قصائد الشاعر في هذا الديون هي الحزن ، الأمر الذي يذكّرنا بكوكبة من شعراء العصر الحديث عبّروا عن مشاعر القلق و الاغتراب والحزن العميق الناجم عن الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ أو التجارب الشخصيّة والمواجع الذاتيّة ، مثل صلاح عبد الصبور، بوصفه واحداً من روّاد الشعر الحديث (شعر التفعيلة) في العالم العربي، يُعدّ مثالًا بارزًا لهذه النزعة، إلى جانب شعراء آخرين مثل بدر شاكر السياب و نازك الملائكة، وخليل حاوي الذين مزجوا الحزن بالتأمّلات الفلسفيّة والصور الشعريّة المبتكرة ، وشاعرنا يجعل من الحزن حسّا داخليّاً ينعكس على مختلف الظواهر التي تتّسم بها حياة الشاعر شاملةً الزمان و المكان وأقبية الداخل وامداء الخارج ، وهو حزنٌ غامرٌ في حراك دؤوب مُتعدٍّ لايعرف السكون يكتسح (الضياء و اليقين) يتّسم بالمغالبة والإنكسار في ثنائيات الحياة وأبعادها المنظورة و المخفيّة (العيون والظنون) ويتمحور الحزن في الظاهرة الكونيّة التي ارتبطت بالحزن عند أغلب الشعراء وهي (المساء) فهذه المفردة التي تتكرّر في متن القصيدة تشكّل إطاراً نفسيّاً و وقريناً مُلازماً للحظات الحزن و الاغتراب ؛ يبدأ بها القصيدة فتتسيّد الحقل الدلالي فيها ؛ فهي موضوع الخطاب و وجهته في مقاطع القصيدة الثلاثة مقترنةً بالحزن فاعلاً رئيساً في مغالبة مُستمرة مع الذات الشاعرة تتمثّله في أضعف حالاته الوجوديّة جنيناً (كأنني جنين) و(لا سلاح في يدي) و( نجمة تموت في النهار) و(تجثم فوق صدري الهموم) (تقذفني لعالم غريب) و(ترجمني بنظرة غشوم) سلسلة من الصور يتمظهر فيها الحزن في مشاهد شتّى في أكثر حالات الذات ضعفاً ، لقطات في شريط يتفاعل عبرها الإحساس بالحزن ويأتي الخطاب مشحوناً بالشكوى والألم المُمِض ؛ فمنذ العنوان حيث يقترن المساء بالذات مضافاً إلى ضمير المتكلم ، وكأنه خاصّية ملازمة للشاعر وحِكر عليه تستغرقه و تحتوي وجوده (مسائي الحزين) ويتعاظم الإحساس بالألم ويتصاعد متنقلاً بين قصائد الديوان ، متدرّجاً في الخطاب، مُتنقّلاً من المساء في رغبة يتمنّى الشاعر في خطابه للمساء أن يستجيب له، ويخفّف من آلامه ؛ فمن المعروف مجازياً أنّ خطاب غير العاقل يفيد التمني الذي يبدو أمراً مستحيلاً ، وهوينتقل من التعبير عن الرغبة الدفينة إلى توسيع دائرة الخطاب من المساء إلى الرفاق فيفيض به الحزن متجاوزاً المساء في عموميّة الخطاب فى آخر الليل حيث امتدّت به المعاناة ، ومضى به الألم حتى استغرق الليل في تلبُّثٍ عنده متوسّعاً بالمشهد ليحيط بأبعاده متقرّياً تضاريسه، متلَمّساً مكوّنات المكابدة والألم في سكونه ودروبه وكهوفه وظلماته ودموعه، متخطّياً تضاريسه الظاهرة إلى خفاياه الباطنة . تنمو الصورة في القصيدة فيجمع الشاعر أشتاتها ويدفع بها لتحيط بما يعتمل في أغوار النفس وعوالم الداخل ، في حراك دراميٍّ ينتشل ظواهرها من سكون الموقف إلى صخب المشاعر : “يقذف الصرخة فيه بجنون/ ثم يجتث الصدى / آه مما يفعل الشوق بليل مستجير/ غافل ترتع فيه ساكنات بضميري/ قيد الخوف يديها / شدها للحجر أطياف تثوب / كلما انقض على الشمس غروب” يمضي الشاعر في تشكيل المشهد فيتقرّى ملامحة منتقلاً به من غنائيّة ذاتيّةٍ إلى دراميّة موضوعيّة ليلامس تقنيَة ما يعرف ب(المعادل الموضوعي) في بناء الصورة الفنيّة ، ومن أحادية الرصد إلى كلّية الرؤيا ، مُستثمراً أسماء المعاني المجرّدة المطلقة الدلالة ( البؤس واليأس والحب واليقين والإمحال والربيع و الحلم و السكينة و المستحيل و النور و الحياة و الألم و الغشاوة و الرجاء و الدفء والأنين ... إلخ) مما حفلت به القصيدة في معجمها اللغوي الذي كاد يوغل في مطلقات الشعورو في بناء الصورة في تشكيلٍ يتراوح بين الترميز الدلالي و التصوير الجمالي والوصف و التمثيل : “ بأسها مستفحل/ يقتل الحلم وطيف الطارق / يشرب النور و يستل الحياة/ بعد ما اجتاح السكمينة “ لقد كاد المعجم أن يقع في أسر المعاني الجاهزة ؛ غير أن الشاعر أعمل فيها خياله في عُدول مباغت عن الدلالات المعجمية إلى آفاق مجازيّة تلامس سقف الرمز أو تكاد. كلما مضينا في قراءة قصائد الديوان الذي حرص الشاعر على تأريخ قصائده لاحظنا أن هناك قفزات فنّية جماليّة في طريقة البناء و التشكيل ، وأقصد بالبناء هيْكَلة القصيدة ، وأما التشكيل فهو يختصُّ بالنسيج الداخلي لُغويّاً و فنّياً ، ومع حرص الشاعر على وحدة المحور الدلالي متمثلاً في الحزن فإن ثمّة تطوّراً في المعالجة الفنّية و ارتياداً لأمداء جديدة في بناء القصيدة؛ ففي قصيدته (بكائية من من مساء شتائي) نلمس رؤية جديدة لشكل القصيدةح فهناك عناوين فرعيّة تتضافر دلالاتها لتفضي إلى مركزيّة الرؤية وعضويّة البناء ، فمن العنوان الأول (قضيّة ) العتبة الأولى نلمس سيطرة الوعي ويقظة الحسّ الجمالي ، صورة وصفيّة سرديّة رمزيّة تبدو فيها قسمات قابلة للتأويل عبر العتبة المتمثلة في العنوان (حالة شعرية وجدانية) قطبان يتنازعان الحالة (جبال الصقيع وعين الشمس) تتجاذبان اللحظة الشعرية، فعبر هذه المفارقة ينزع الشاعر للميل إلى إحداها مُمثلَّاً في الصقيع في المقطع الثاني المعنون ب(إشارة) ويتمركز في بناء الصورة حول (البياض) الذي هو لون الثلج و الصقيع ما يوحي بفشل الشمس في إذابته و الحدِّ من هذه الحالة المتجذّرَة ؛ وعقب هذه الإحاطة الرمزيّة بالحالة يأتي الصدى الأول، فعبر هذ الواقع المبني على المفارقة المُستعصية تتشكّل أصداؤها النفسيَّة التي تنجم عنها مكابدة يصورها المشهد في محاولة الخلاص من الصقيع رمز الأزمة وجماع المعاناة عبر التماس المخرج مهما تضاءل (رائحة الشمس) في حين يبدو الداء وقد استوطن ؛ فالمساء مُنطَرح مشنوق دلالةً على الاستغراق في ظلمة الأزمة في بعدها الكنائيّ الذي يطل على مشارف الرمز ،و تمثُّل الحالة باستلهام النص الذي يضيئها (ياليل الصب متى غده) مطلع قصيدة علي الحصري القيرواني حيث انتظار الغد الذي يرى الشاعر القيرواني فيه معشوقته ؛ فالشاعر هنا يتمثّل هذا الموقف الوجداني أملاً في الخلاص من أزمته ، وفي المقطع الذي يليه الذي يحمل عنوان (صدىً ثانٍ) يتخيّل الشاعر المشهد وقد بلغ فيه ذروة الشعور بالموقف ، ثم تأتي الخاتمة لتقفله على مابدأت به القصيدة من اليأس و الإحباط في بناءٍ دائريٍّ محكم أما خطاب الآخر فقد تحرّر من حمولات الأحزان و الأشجان في نهج بوْحٍ وجدانيٍّ تتداعى فيه الذكريات والآهات في انثيالات و وصوتٍ شاكٍ ودمعٍ باكٍ تتقرّى تضاريس الهموم ، يختار لها الشعار زمانها الذي يشقُّ سكون الليل وهدأة الكائنات ؛ ففي قصيدته(بقايا في آخر الليل) ينتزع الشاعر من أعماقه دفائن اللوْعة وحرقة المعاني في تجلياتٍ تنهمر يتمثّلُها انسياباً للحنين وانحباساً في الكهوف وصرخةً ودموعاً وظلاماً وظمأً وهجيراً وجنوناً وليلاً وغروباً و حكاياتٍ حزينة ويأساً منغرساً في القلب وقفاراً موحشات وإمحالاً وجفافاً وضياعاً وأسفاً وحُلُماً مقتولاً وبقايا حكايات حزينة ووهوىً مفجوعاً وهمهماتٍ لا تبين ونداءً مستكيناً ، تدفّقٌ وتداعياتٌ تصوّرٌ و استقصاءٌ وتصنّعٌ واستلهام لمعجمها من شتى مصادر الشعور و الكون و الطبيعة في إضمامة من الصور والكنايات ،وحشدٍ كميٍّ هائل من ألوان المعاناة عارضاً لها في مشاهد شتى و في بوْح صُراح أمام الرفاق مُشْهِداً إياهم على مذخور الألم ومكنون الشجن ، هذا التوارد يتدفّق من نبعٍ زاخرٍ ونهرٍ دافق ، ذلك سرُّ هذه الشعريّة التي تغذّي نزيف القلب . وفي عناوين القصائد ما يمدُّ هذا الحشد من بكائيات وانكسارات التي تتمثل في المرئيات و المحسوسات والعوالم المنظورة والخفيّة، ويتخيّل الحزن في كل مايرى : في الأرحام والأكوان متسائلاً تائهاً في حراك لا يهدأ؛ فهو يرتدّ إلى الأصول الأولى منبع الكينونة في (انكسارات داخل الرحم المجدور) متفاعلاً ممع أصل الوجود وطين الأرض مُعبّراً عن التيه في كل مناحي الخلق أمكنةً وأشرعةً وأمداءً بلا حدود، يخاطب ويروي ويصف ويشكو ويصوّر، تائهاً بين الأمكنة و الأزمنة ، يبحث عن أمل ضائع يتجسّد في مخاطب مجهول، يخلع مشاعره على الأمداء كلّها في تساؤل مستمرٍ بلا حدود، مستدعياً الأمثال و الأكوان (اتسع الخرق على الراتق) “الآن نداؤك يزرعني في حدقات الأطفال/ اتسع الخرق/ والراقع لحظات نتنة/ تتدثر ليلاً مغتربا” ويستلهم نصوصاً شعريّة حديثة بما تنطوي عليه من إيحاءات ، كما في قصيدنه (استجداء على أعتاب فضّة العربيّة) إشارة إلى قصيدة الشاعر عبدالله الصيخان (فضة تتعلم الرسم) فيجلس بين يدي فضّة يجأر بالشكوى متوسّلاً ضارعاً يودُّ الخلاص ، وينشد اللجوء إلى عوالم الفارس المُبتغى (أدخليني عوالمه المائحات شبابا وعذابا) يمضي نحو الخلاص من العوالم المغلقة في اشتجارٍ للهموم ووصفٍ للمواجع وإلحاحٍ على الخلاص من المعاناة الجامعة والبوارق اللامعة وما آل إليه المصير من انهياراتٍ في صِوَرٍ شتى وتيهٍ بلا معالم : “خذيني إليك / فما عدت أعرف كيف أسير /خذيني لعينيك واستبشري “ وفي القصيدة المركزية التي سُمّيَ باسمها الديوان(أفتش الحزن .. يخبئك الفرح) خطاب للأنثى في قصيدة رثائيّة حزينة ، خروجا على المألوف و المعتاد ؛ فثمّة مشهد تتصدّره أنثى تُوصف بالخيانة و الغدر ، كريهةً منبوذةً يخاطبها بسلسلة من أساليب الأمر فيها انزياحات و ألوان من العُدول و المفارقات (قومي ارقصي وقومي احتسي) ترميز وتكْنِيَة عن واقعة ونازلة، فهل هي واقعة الفقد ونازلة الموت؟ تخيَّلها نازلةً من نوازل الزمان في صورة امرأة نَكِدةٍ كريهة ، مثل حمّى المتنبي إذ يعتمر سوء وجهها وتتلبّسه نازلة كبرى من نوازل الزمان ، ويستدعي الماضي في سرديّةٍ حزينة تستحضر طيف الفقيد في مشهدٍ جليلٍ تغشّاه الألم ، هذه النازلة المُتخيّلة يتعقّبُها الشاعر في صور شتى تنتزع أحلامه وآماله ، وتتقرّاها في مفردات السواد والدمع إلى أن ينتهي بالإفصاح عن نازلة الفقد و مصيبة الغياب: “ليلتنا غادرتها العصافير واضوء والأمنيات,, ولم يبق غير دعاء على الشفتين” ثمة جزءٌ من الديوان لم تتّسع له هذه القراءة، قصائد تناظريّة عموديّة جديرة بالتأمل و القراءة؛ لعل فرصة أخرى تحين لتمنحني الوقت لإطلالة على ما تدّخره من رؤى و جماليات.