
قبل ست سنوات، كانت المخرجة الفلسطينية ناهد عواد وزوجها وابنتهما البالغة من العمر أربعة أسابيع في طريقهم إلى ألمانيا من منزلهم في الضفة الغربية. ولأنه ليس فلسطينيا، اتخذ الزوجان مسارين منفصلين عبر الجسر المؤدي من الأراضي المحتلة إلى الأردن. غادرت الطائرة من عمان في وقت لاحق من ذلك اليوم. بعد خمس ساعات من الانتظار عند نقطة مراقبة الحدود، أعيدت عواد إلى فلسطين لتسوية مشكلة في هوية ابنتها . أخبرها الجنود أن الاسم الموجود على بطاقة الهوية لا يتطابق مع نظام الكمبيوتر الخاص بهم . وعند عودتها، زارت وزارة الداخلية في رام الله لتسوية الأمر بشكل دائم. هنا التقت بعدد هائل من الأشخاص الذين كان توثيقهم يؤجج صراعا مستمرا من أجل عائلاتهم ويولد الانقسام . إحدى هذه الحالات هي رفض إسرائيل المنتظم دخول الفلسطينيين من غزة إلى الضفة الغربية، بغض النظر عما إذا كانوا قد عاشوا هناك من قبل أو إذا كان لديهم عائلة هناك. وقد أدى ذلك إلى التقسيم القسري للعائلات لسنوات . نتيجة الى المواجهة الشخصية على الجسر إضافة الى الأشخاص الذين التقت بهم، قررت المخرجة ناهد عواد أن توثق تلك التجربة المريرة ونتقل صورة للوجع الفلسطيني في غزة . وأقدمت على أخراج فيلم “ غزة تنادي “. يتتبع الفيلم الوثائقي قصص عائلتين فلسطينيتين تعرضتا لهذا التقسيم التعسفي . “غزة تنادي “ فيلم وثائقي يتناول الواقع المرير الذي يعيشه الانسان الفلسطيني تحت الاحتلال الاسرائيلي . الأم التي تعاني بعد فصلتها القيود والحواجز الاسرائيلية عن ولدها .لم يتمكنوا من رؤية بعضهم البعض لمدة ست سنوات ، عندما ذهب مصطفى لزيارة غزة في عام 2006، كان عمره 18 عامًا. لم يسمح له بالعودة أبدًا - والدته حكمت تقاتل من أجل رؤيته مرة أخرى منذ سبع سنوات الآن . عائلتان تمزقتا. لأنهما مسجلان بعنوان غزة في بطاقات هوياتهما . بموجب الاحتلال الإسرائيلي، يعتبرون “ متسللين “ في بلدهم الخاص. حياتهم تحولت إلى صراع دائم. يمكن للآباء التحدث إلى أبنائهم فقط عبر الهاتف، والأخوات يمكنهن رؤية إخوتهن فقط عبر الإنترنت - الأمهات وأطفالهن يقاتلون من أجل أن يكونوا معًا أخيرًا . فيلم تم إنتاجه قبل 12 سنوات يمكن أن يساعدنا على فهم سبب شعور الناس في غزة باليأس الشديد اليوم . إفتتاحية الفيلم تبدأ من شاطئ غزة ، الأم وابنتها الصغيرة تلعبان على رمال الشاطئ . صفاء، الأم ترسم خريطة فلسطين بعصا. تقول: “سما ، انظري! نحن هنا، في غزة”. مشيرة إلى جزء آخر من الخريطة، تقول: “وهنا الضفة الغربية. أين سامر؟” وتتابع وهي تجيب على نفسها: “في الضفة الغربية. سامر في رام الله. أغلقوا المعابر حتى لا نتمكن من رؤيته”. يبحث هذا الفيلم الوثائقي للمخرجة ناهد عواد وراء السياسات الإسرائيلية التي تجعل من المستحيل تقريبا على الفلسطينيين التنقل بين غزة والضفة الغربية ويركز على العواقب على عائلتين. للأسف، ما يحدث لكل من سامر ومصطفى هو نموذج مصغر لمشكلة واسعة الانتشار حيث لا تستطيع العائلات التواصل إلا عبر الهاتف . حتى عند تصوير أجزاء من الفيلم الوثائقي في غزة، لم يسمح لعواد نفسها بزيارة القطاع لأنها تحمل بطاقة هوية خضراء من الضفة الغربية. لم تقابل أبدا الطاقم الذي صور هناك ، ببساطة تواصلت معهم عبر البريد الإلكتروني والهاتف . تقدم سامر قطا عدة مرات بطلب للحصول على تصريح للانتقال من غزة إلى رام الله في الضفة الغربية للدراسة في جامعة بيرزيت. وفي إحدى الليالي تلقى مكالمة هاتفية من السلطة الفلسطينية تخبره بأن إسرائيل وافقت على طلبه الأخير، لكنه سيحتاج إلى المغادرة في غضون 12 ساعة. وبعد ثلاث سنوات، رفض السماح لوالديه في غزة بالسفر إلى الضفة الغربية لحضور حفل تخرجه. بعد تخرجه، تقدم سامر بطلب لتغيير عنوانه في بطاقة هويته لأن البحث عن عمل في إسرائيل أو الضفة الغربية ، لصعوبة العيش والعمل في غزة لكن الإسرائليين رفضوا طلبه . حصل على عمل كمراسل لتلفزيون وطن ويعمل أيضا بشكل عرضي لبعض الأجانب. عندما يعرض عليه منحة دراسية في الخارج للذهاب إلى مدرسة السينما للحصول على درجة الماجستير ، فإن طريقه الوحيد الممكن للخروج هو عبر الأردن ولكن مرة أخرى، يصدم برفض الإسرائيليون منحه تأشيرة خروج . لذا قرر العودة إلى غزة وتمت الموافقة على ذلك في نهاية المطاف، وتتعلق الحالة الثانية بالسيدة حكمت بيسيسو وأسرتها. حكمت سيدة مطلقة ولديها عدة أطفال، عملت قبل عدة سنوات في منظمة غير حكومية في غزة وحصلت على تصريح لمدة يومين للسفر إلى الضفة الغربية لحضور مؤتمر. تجاوزت مدة مرورها بيومين ثم رفض السماح لها بالعودة إلى غزة لأنها كانت “غير قانونية”. ومع ذلك، فقد سمح لأطفالها بالانضمام إليها في الضفة الغربية. وفي عام 2006، حصل ابنها مصطفى البالغ من العمر 18 عاما على تصريح بالعودة إلى غزة لرؤية والده المريض. وخلال تلك الزيارة أغلقت الحدود بعد مقتل جندي إسرائيلي في غزة، ولم يتمكن من العودة إلى أسرته.اتصلت حكمت بمنظمة إسرائيلية لحقوق الإنسان وقيل له إنه لا تتم الموافقة على أي طلبات لمغادرة غزة للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و 35 عاما. الموافقات ممكنة، للأيتام للأطفال تحت سن 16 عاما الذين لديهم قريب في الضفة الغربية، والأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما ويحتاجون إلى رعاية شخصية وليس لديهم عائلة في غزة ولكن أقاربهم المقربين في الضفة الغربية، والأشخاص الذين يعانون من أمراض خطيرة وفي وضع مماثل . تنقل الكاميرا الى مدينة رام الله في حفل تخرج للطلبة. يمسك أحد المشاركين هاتفه المحمول القديم في وجاء في تعليق: “سامر، ابن صفا، رام الله”. يتحدث سامر مع والدته متحمسا لأن عائلته شاهدت الحفل. في وقت لاحق، تمت مقابلة سامر في سيارة، حيث قال: “أخشى ما سيحدث. عائلتي تعتمد علي، لذا ستكون خيبة أمل كبيرة إذا عدت الآن إلى غزة”. عندما تسلل سامر إلى الضفة الغربية بتصريح زيارة لمدة 18 ساعة، كانت صفاء فخورة بالطبع بأن ابنها سوف يدرس السينما. ولكنها تعلم الصعوبة لأن أوراقه يجب أن تصدر من غزة . عندما يتابع الفيلم سامر وصفاء بعد ست سنوات، يعمل سامر في وكالة أنباء في رام الله ، ولا يزال يتواصل مع أخته الصغيرة سما فقط من خلال مكالمات سكايب . وفي الوقت نفسه، تتفاوض أم أخرى – حكمت – مع السلطات ومنظمات حقوق الإنسان حول إمكانيات زيارة ابنها مصطفى . زار مصطفى والده في غزة في يونيو/حزيران 2006. وبعد أربعة أيام، أسر المقاتلون الفلسطينيون الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط . وردت إسرائيل بحصار غزة، مما جعل من المستحيل على أشخاص مثل مصطفى العودة إلى عائلاتهم. حاولت والدته مقابلته في بلد آخر، لكن إسرائيل رفضت طلبها للتأشيرة. سرد جزء كبير من الفيلم يصور حكمت جالسة والهاتف في يدها، تستمع إلى صوت متعاطف يخبرها أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء لمساعدتها. في أحد المشاهد، يسأل حكمت ما الهدف من العديد من المنظمات غير الحكومية التي لديها مكاتب في رام الله؟ . نعود إلى سامر. إنه يواجه معضلة حاسمة. يريد السفر إلى الخارج لمتابعة دراسته. وهو يريد إعالة أسرته التي تعيش على قطعة صغيرة من الأرض التي دمرتها العقوبات والحصار وعقود من الهجمات الجوية الإسرائيلية. ومع ذلك فهو يفتقد عائلته. وفي إشارة إلى القصف المستمر، يقول: “غزة هي المكان الذي سيموتون فيه وأريد أن أكون معهم عندما يموتون”.سامر أيضا يحب غزة ويشتاق إليها. وعندما ترسل له عائلته صورا من الشاطئ، يقول إنهم يسخرون منه (الناس في الضفة الغربية محرومون من أي منفذ إلى البحر). في مرحلة ما ، يقول “لدينا بلد جميل”. ومن المفارقات أن هذا أثناء نقله عبر إسرائيل مرورا بلافتات الطرق المكتوبة باللغة العبرية. قد تكون البلاد جميلة ، لكن الأرض لا تزال مسروقة . الفيلم يعرض الإهانات اليومية التي عانى منها سكان غزة قبل 12 سنوات ولازالت بل زادت أضافة الى القصف الإسرائيلي المتعمد الحالي للمستشفيات وطرد نصف البلاد من منازلهم . المخرجة الفلسطينية( ناهد عواد) تعكس في فيلمها “غزة تنادي” الذي يعكس معاناة الغرباء داخل أوطانهم، فيما فضلت أن تبدأه بمشهد لشاطئ بحر غزة، حيث تحاول أم أن توضح لطفلتها عملية الفصل بين غزة والضفة الغربية، بشرح بسيط على خارطة فلسطين المرسومة على شاطئ البحر . مشاهد عديدة في هذا الفيلم الذي شاركت فيه ناهد ضمن مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية، قد تدمع العين وتوجع القلب، رغم إنها لا تحمل أياً من أشكال العنف أو القتل أو حتى مشهد للاحتلال، بقدر ما تروي هذه المشاهد معاناة حقيقية يعيشها الفلسطيني يومياً، ليجد نفسه بين لحظة وأخرى غريباً في وطنه، لا يمكنه زيارة عائلته حتى في أحلك الظروف، والسبب وجود حاجز كبير يفصل غزة عن الضفة. المتابع لهذا الفيلم، يجد أن مخرجته ناهد الحاصلة على جائزة “ترابل بلازار” من السوق الدولية للفيلم الوثائقي في 2009، حاولت أن تقدم فيلماً شفافاً بمشاهد صادقة موثقة بشهادات عديدة من مواطنين يعيشون معاناة هوية “غزة” يومياً، مبتعدة بذلك عن طريقة الوثائقي العلمي الذي يعتمد على الأرقام والدراسات، واتباع ناهد لهذه الطريقة بدت محاولة منها لتقديم فيلم محمل بالمشاعر الإنسانية، لتقدم لنا من خلالها وجهاً آخر للمعاناة الفلسطينية والتي قد لا تظهر جلية على شاشات التلفزة العالمية، رغم احتلال الحدث الفلسطيني لصدارة نشرات أخبارها . ناهد عواد مخرجة أفلام فلسطينية مستقلة ولدت في بيت ساحور ومقيمة في برلين. تعمل في السينما والتلفزيون منذ عام 1997. بدأت حياتها المهنية كمحررة. في عام 2002 ، بدأت في إخراج أفلامها الخاصة. شاركت في العديد من الدورات التدريبية المهنية في كندا وقطر وبلجيكا. في عام 2004 ، تخرجت من مدرسة السينما الأوروبية في الدنمارك بدرجة في السينما. أصدرت ثمانية أفلام وثائقية تتراوح بين الأفلام التجريبية والقصيرة والروائية. بعض العناوين: “غزة تدعو” 2012، “5 دقائق من المنزل” 2008 ، “25 كم” 2004، “جولة من الأسبوع” 2003 ، تتحدث عن مأساتها قائلة: ”لقد نشأت في بلد يسيطر عليه جيش أجنبي وحيث يتم التشكيك في هوية المرء ووجوده على أساس يومي. تخضع الظروف لتغييرات جذرية غير متوقعة من يوم إلى آخر. طريقك المعتاد إلى المدرسة أو العمل مقطوع بنقاط التفتيش المنبثقة أو ببناء جدار بارتفاع ثمانية أمتار. لأكثر من 20 عاما حتى الآن ، كنت مدفوعا غريزيا لجمع والحفاظ على ذاكرة الناس والمناظر الطبيعية في وطني. هذه الرغبة في حماية الذاكرة هي السبب في أنني أصنع الأفلام “. وتضيف المخرجة :”اليوم ، أصبحت الذاكرة والأرشيف الفكرة المهيمنة لعملي. على سبيل المثال ، في فيلمي “5 دقائق من المنزل” عن مطار القدس ، لم أتمكن فقط من إحياء ذكرى مكان منسي ، ولكن أيضا تجميع مواد من مجموعات خاصة لبناء أرشيف لم يكن موجودا في المجال العام “. من خلال فيلم “ غزة تنادي” أرأدت المخرجة أن توصل رسالة خالصة للجميع مفادها “أن المصائر كلها معلقة بالمعابر، وأن لا حرية لهم حتى في التنقل”، ما يجبر الفلسطيني على أن يكون متسللاً داخل وطنه الأم . وتفضح اللامبالاة من الحكومات الغربية بالإذلال اليومي لسكان غزة، وعدم فعالية المنظمات غير الحكومية. هذا هو ما أضفى الشرعية على هجمات إسرائيل الأكثر فظاعة التي يتم تنفيذها الآن . * كاتب عراقي