فيلم مايا من ستورمسكيري ما بين الوجود والعدم..

لن نصبح أحراراً حتى نقبل وجودنا كما هو.

الحياة لغز كبير يبدأ بصرخة الولادة وينتهي بشهقة الموت، وما بينهما الكثير من الفصول والخيارات والأقدار، والتي نجد أنفسنا فيها دون سابق إنذار ودون أن نختار غالباً. وقع اختياري هذا الأسبوع على الفيلم السويدي (ماريا من ستورمسكيري) فيلم مشحون بالحياة بتفاصيلها منذ الدقيقة الأولى حتى آخر لحظة، ويترك في ذهنك الكثير من التساؤلات والأكيد أنه سيبقى في رف أفلامك المميزة إلى الأبد، والفيلم يتناول قصة فتاة بسيطة عفوية لم تتجاوز السابعة عشر، تعيش حياة ريفية مع عائلتها تركض وترقص وتغني، في اتصال كبير مع الطبيعة طوال الوقت، حتى يتقدم لخطبتها شاب صياد ليأخذها إلى جزيرة بعيدة بعيداً عن العشب والحيوانات والصديقات، بعيداً عن المناخ الذي اعتادت عليه، ولم يكن لمايا الخيار فالقرار اتخذ بالفعل من قبل والديها لتجد نفسها عروساً تزف إلى رجل غريب عنها تماماً، لينمو الحب بينهما يوماً بعد يوم وتكبر العائلة وتزيد الأعباء لكن الحب كان حاضراً دائماً. تمر مايا بالكثير من المحن والأزمات كالحرب والجوع والفقد والذل، وستشاهد رحلة مايا من فتاة خاضعة إلى امرأة قوية تتحدى التقاليد المجتمعية، لتكون شريكة حقيقية في الحياة، وليست مجرد تابع، والفيلم مليء بالمشاهد الغنية بالمعاني، يُسلّط الضوء على قوة الإرادة البشرية وقدرة المرأة على التكيف والتغلب على الصعاب، تشعر وكأنك في رحلة فلسفية لتستكشف معنى الوجود والإرادة والتحدي، والاستقلال، كيف يمكن للإنسان أن ينتصر على العزلة والظروف القاسية عبر الإرادة الحرة، وإعادة تعريف الذات مما يجعل من القصة نموذجًا عميقًا للتغلب على المصاعب وصناعة المعنى، تترك مايا لتعيش على الجزيرة لوحدها خلال رحلات زوجها إلى الصيد فتتوحد مع الطبيعة لتكون هي والماء وهذه اليابسة للحظة ما شيئاً واحداً، شخصية مايا تمثل الإنسان الفطري الذي لم تعبث به الايدولوجيا والمعتقدات، ولم يكن ليؤمن كثيراً بالخرافات بالرغم من كونها فرد من مجتمع متدين، فهي تؤمن على طريقتها وكما يجب للإيمان أن يكون، ستجد في الفيلم نموذجاً عظيماً ومثالياً لفكرة الزواج والعائلة في تجسيد حقيقي لعلاقة رجل وامرأة كما يجب أن تكون. الفيلم مليء بالمشاهد العظيمة والحوارات البسيطة والعميقة في آن، وواحد من أهم المشاهد برأيي هو مشهد التعري؛ ففي لحظة التعارف بين الزوجين وكل منهما غريب عن الآخر، وكلاهما غريب في جزيرة بعيدة، وبحاجة ماسة لبداية جديدة ولوطن يلملم هذه الأرواح الحائرة، يقوم الزوجان بالتعري والقفز في الماء، يمثل التعري التحرر من القيود وقد يكون المجتمع والتقاليد أهم هذه القيود، عندما تتخلى مايا عن ملابسها، فإنها ترمز إلى التخلي عن الأدوار المفروضة عليها كامرأة في مجتمع تقليدي، ومواجهة وجودها في صورته الخام؛ إنسان أمام الطبيعة بدون أقنعة أو قيود، وكأن القفز في الماء يُمثل الانتقال إلى حالة جديدة وكأنها تعيد ولادة نفسها بشكل أكثر حرية وقوة، بعيدًا عن الأعراف السابقة ، وكأن هذه القفزة هي تحرر وتطهر ومواجهه جريئة للخوف من المجهول، المشهد يُذكرنا أيضًا بفلسفة هايدغر في الوجود الأصيل، حيث يُصبح الإنسان مع الطبيعة بلا حواجز صناعية أو اجتماعية، كأنها تتخلص من كل ما هو زائف أو مفروض، وتعيش لحظة أصيلة من الوجود الخالص. يخوض الزوجان الكثير من المحن معاً، تحتل جزيرتهم ويسلب أمانهم وتسرق راحتهم، ويعرفون معنى الفقد والبعد، معنى الحياة والموت معاً حتى الرمق الأخير، هذا الفيلم واحد من الأفلام التي أشعر حين أكتب عنها وكأنني لم أصف حتى جزءاً بسيطاً من الأثر الذي خلفته في وجداني، فيلم “مايا من ستورمسكيري” هو أكثر من مجرد دراما تاريخية؛ إنه استكشاف عميق للأسئلة الوجودية حول الحرية، الإرادة، العزلة، والتكيف مع قسوة الحياة، من خلال شخصية مايا، تُجسد القصة رحلة الإنسان في اكتشاف ذاته وسط تحديات الطبيعة وظروف المجتمع، في الفيلم، الجزيرة والبحر ليسا مجرد خلفية؛ إنهما شخصيات قائمة بحد ذاتها، البحر يمثل اللانهاية والمصير المجهول، بينما الجزيرة تعكس العزلة والاختبار الدائم. الأداء التمثيلي “لأماندا يانسون” حيث جسّدت تطور الشخصية من الضعف إلى القوة بشكل مقنع، كما أن الأداءات الداعمة، خاصة من “لينوس ترودسون” في دور الزوج ياني، أضافت عمقًا للعلاقات بين الشخصيات، الموسيقى التصويرية من تأليف “لوري بورا”، تُعزز من الأجواء الدرامية وتُضفي عمقًا عاطفيًا على المشاهد، والاعتماد على موسيقى الطبيعة كصوت الطيور والبحر والرياح في الكثير من المشاهد يأخذك إلى بعد آخر، في بداية الفيلم تلاحظ سيطرة الألوان الباردة والرمادية مما يعكس العزلة والقسوة التي تعيشها مايا في الجزيرة، مع تطور شخصية مايا ونموها، تبدأ الألوان الدافئة (كالبرتقالية والأصفر) في الظهور، خاصة في مشاهد الأمومة والعمل اليومي، مما يرمز إلى النضج والأمل الذي تبنيه رغم التحديات، في المشهد الختامي على الصخور، يظهر البحر تحت سماء زرقاء صافية، في إشارة إلى التحرر الوجودي بعد رحلة من المعاناة، كما جسد الطقس المشاعر الداخلية ففي كل مرة تواجه مايا أزمة داخلية، تتزامن مع عاصفة قوية في الجزيرة، هذا الربط بين الداخل والخارج يُعبر وكأن قسوة الطبيعة تعكس صراع الإنسان مع ذاته، فالضباب يظهر في اللحظات التي تكون فيها الرؤية غير واضحة أمام مايا، سواء على مستوى القرارات أو مواجهة المصير، ويظهر صفاء الجو في لحظات التصالح مع الذات، كالمشاهد التي تجلس فيها مايا على الصخور، تتأمل البحر بعد رحلة من الصمود والتعب، البحر في الفيلم ليس فقط خلفية، بل هو رمز للوجود اللانهائي والمصير غير المحدد، ففي كل مرة يُبحر فيها ياني أو تجلس مايا أمام البحر، نشعر برهبة من اللانهاية، من المصير، ليكون هذا البحر هو الجحيم والجنة في ذات الوقت. فيلم Stormskerry Maja”” هو فيلم فنلندي باللغة السويدية، أنتج عام 2024، تم اختيار الفيلم لمهرجاني غوتنبرغ وروتردام السينمائي، وتم ترشيحه لعشر جوائز في حفل توزيع جوائز جوسي لعام 2025 ، حيث فاز بسبع جوائز ، بما في ذلك أفضل فيلم وأفضل مخرج، الفيلم من بطولة/ “أماندا جانسون” في دور مايا و”لينوس ترويدسون” في دور جان، و”ديزموند إيستوود” في دور الملازم جون ويلسون، ومن إخراج المخرجة “تينا ليمي”.