كيف وقعتُ في حب «اللسيب»؟

لن أفتتح هذه المراجعة بالحديث عن «اللسيب» و»مطوّعه» و»خبوب» بريدة و»أطيان» القويع، ولا عن «اللحظة التاريخية» وأحداثها الاجتماعية والسياسية. بل سأدخل مباشرة في المحتوى الذي يهمّني، ولو أني قارئ من خارج الجزيرة العربية (وبعض قرائي كذلك) لكان هذا التناول هو ما يرضيني. عندما تقرأ كتاب «مطوع اللسيب» تشعر كأنك أمام شاعر فقيه، لا مجرد كاتب عقد؛ فهاهنا وصية بالعدل والمساواة فيها: «أوصيتهم بتقوى الله، والعدل في القسمة، والصفح عمن أساء، فمن أحياها فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن بدّل فإنما إثمه على من بدّله». هذا النوع من التوصيات يتكرر في أكثر من وثيقة من التي قرأتُها، وهو إنما يدل على التديّن المتركّز في فضيلة الخلُق الرفيع، التي تشعّ وتخرج إليك وتعانقك بصرَك، فتتضوع رائحة الدماثة من هذه الرسوم الورقية الجافة. أما الطمأنينة والأُنس في آثار «مطوّع اللسيب» فلا تسأل عنها، وإليك هذا المقطع في عقد نكاح: «وقد رضي كلٌّ بما قُدر له، وما جعل الله من سكنٍ ورحمة بين الزوجين، فهو العهد الذي لا يُنقض، والعقد الذي لا يُحل إلا بسوء فعل أو كدر قلب». لكن ثمة تساؤلًا يعترض أمامي: «لماذا يُبعث مطوع اللسيب هذا اليوم وبعد 100 عام من رحيله؟ أهي مجرّد المناسبة المئوية»؟ رأيي أنّ ما يقدمه هذا الكتاب ليس تأريخًا لقاضٍ قروي (ولذلك أغفلتُ المقدمة الجغرافية والتاريخية عمدًا)، بل هو نفاذ بالوعي مباشرة إلى مشهد تبدأ فيه العدالة من حصباء المسجد، حيث تتشرب جدران الطين المعرفة الإيمانية البهيجة كما تمتص الأرض مياه المطر، وحيث المكانة لا تحتاج إلى أرصدة تجلبها، والوجاهة لا تتطلب مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي تقدّر بالملايين. تنقشع حجُب الزمن وغشاوات الأعراف المزيفة لنجد أنفسنا ماثلين واقفين أو متكئين أمام «المطوّع»؛ فقيهًا ومُعلمًا ومصلحًا اجتماعيًّا وناسخًا للوثائق، في وقت لم تكن فيه هذه المهمّات متفرّقة. لقد أعاد أحفاد الشيخ، بسعيهم إلى نشر هذا العمل، صورة العالِم النجدي كما كان: رقيقًا، ساخرًا، صادقًا، يمارس العلم بوصفه عبادة، لا وظيفة، و»إنسانًا ثقة» قبل كل شيء. إن ما ينقصنا اليوم، وسط رسائل المحاكم الإلكترونية، وفي خضم صخب وسائل الإعلام والرسميات، وتغريدات المحامين والمتقاضين التي يتباهى فيها بعضهم بتغريم بعض وتشهير بعض ببعض آخرين، ما ينقصنا اليوم هو هذا النوع من الذاكرة الشعبية التي لا تُنسى؛ لأن مَن صنعوها لم يبحثوا عن أن تُذكر أسماؤهم، بل أرادوا أن تُستبقى آثارُهم وتظل حبال المودة «منشورة القلوب» لا «منشورة الغسيل». وقعتُ في حُب كتاب «مطوّع اللسيب» منذ الوهلة الأولى، ليس لأنه بحث أكاديمي، ولا كتاب تاريخي، ولا نص سيرة غائرة كزواية مشتركة بين «الوبر والمدر»؛ فقد اطّلعت على جزء من محتواه في مراجع أخرى، مثل كتابات الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمه الله، في غلاف خصصه للشيخ عبدالكريم (هل تلاحظون أنني للمرة الأولى أذكر اسم الشخصية التي يدور حولها الكتاب)، وفي أدبيات متناثرة هنا وهناك، من كتب الشيخ العبودي نفسه، ومن مقالات، ومن منتديات، ومن تغريدات، أقول: اطلعتُ على شيء من هذا المحتوى في مظانّه. لكن الجديد في هذا الكتاب هو لمسة البِرّ، والتفاف الأحفاد حول مقام سلَفهِم وإمامِهم (وكل من سبَقك بالحكمة فهو إمام لك)، وبعثُ هذا الجانب الإنساني المؤنِس المُبهر، من تحت أنقاض التراب، ومن بين عروش الطين المتهدّمة وعراجين النخل المتقصّفة، على نحو تتمثل فيه تلك السقوف الوطيئة في حمّارة القيظ واحةً وجنّةً بهيجة للحاضر القاطن والعابر الباد.