
في صباحات الجزائر التي كانت تزدان بأكوام الجرائد على أرصفة الشوارع، كان صوت بائع الصحف يعلو ليغري المارة بعناوين مثيرة. لم يكن صباح الجزائري يكتمل إلا برفقة فنجان قهوة وقراءة الجريدة اليومية. اليوم، بات هذا المشهد ذكرى باهتة في ظل طغيان الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي. عزوف الجزائريين عن القراءة لم يعد يقتصر على الكتب فقط، بل طال حتى الصحف والجرائد التي وجدت نفسها مجبرة على ركوب قطار الرقمنة للبقاء على قيد الحياة. ومع تراجع الإقبال على الورق، غدت المواقع الإلكترونية وصفحات فيسبوك وإنستغرام ملاذًا جديدًا لهذه الجرائد لاستقطاب القراء. التحولات الرقمية.. عندما استسلمت الصحف للواقع الجديد مع تسارع وتيرة التطور الرقمي، اضطرت الجرائد الجزائرية إلى إعادة النظر في استراتيجياتها التحريرية والتسويقية. أنشأت مواقع إلكترونية، أطلقت تطبيقات، وأصبحت تعتمد على الفيديوهات والبث المباشر لجذب الانتباه. انتقلت من المقالات المطولة إلى الأخبار العاجلة والعناوين الرنانة، محاولة مجاراة خوارزميات الشبكات الاجتماعية التي تفضل المحتوى السريع والمتجدد. وبينما زاد تفاعل الجمهور مع هذه المنصات، تراجعت نسب توزيع الصحف الورقية بشكل مقلق، حتى أن بعض العناوين العريقة اضطرت إلى غلق أبوابها. جاذبية العالم الرقمي بلا حدود، فقد قدم الإنترنت للجزائري تجربة قراءة مغايرة تتيح له الوصول إلى المعلومة في أي وقت ومن أي مكان. الصور، الفيديوهات، والبث الحي، كلها عناصر جعلت من الورق خيارًا غير جذاب، خاصة للشباب الباحث عن السرعة والتفاعل. العامل الاقتصادي لعب دورًا جوهريًا أيضًا. أصبح شراء جريدة يومية أو كتاب جديد أمرًا مرهقًا لميزانية الكثير من العائلات الجزائرية. بالمقابل، تتيح الشبكات الرقمية محتوى واسعًا ومجانيًا، ما يجعل خيار القراءة الورقية غير عملي في كثير من الأحيان. غياب الابتكار في الصحافة الورقية ساهم في تعميق الأزمة. تواجه الجرائد أزمة إبداعية حقيقية؛ إذ لا تزال الكثير منها تقدم محتوى تقليديًا لا يواكب روح العصر، ما عزز نفور القارئ الشاب الباحث عن محتوى مبتكر وتفاعلي. تراجع ثقافة القراءة ككل أسهم في هذه الظاهرة. لم يعد العزوف يتعلق فقط بالوسائط، بل بثقافة عامة باتت تميل إلى الترفيه السريع على حساب التعمق المعرفي، ما جعل القراءة، سواء ورقية أو رقمية، تتراجع أمام أنشطة أخرى. تداعيات عزوف الجزائريين عن القراءة تراجعت جودة النقاش العام بشكل لافت. ضعف القراءة أدى إلى تراجع مستوى النقاشات على الساحة العامة، إذ باتت المعلومة السطحية والسريعة سيدة الموقف، ما انعكس على عمق الفهم والتحليل لدى فئات واسعة من المجتمع. انتشرت الأخبار الكاذبة بشكل كبير، إذ إن الاعتماد على الشبكات الاجتماعية كمصدر رئيسي للمعلومة عزز من انتشار الشائعات والأخبار الزائفة، ما أثر سلبًا على الوعي الجماعي وزاد من هشاشة الثقة في مصادر الأخبار. أزمة اللغة والثقافة باتت ملموسة. ابتعاد الشباب عن قراءة الجرائد والكتب أثر أيضًا على مستواهم اللغوي، حيث باتوا أكثر اعتمادًا على لغات ولهجات هجينة، ما أدى إلى تراجع استخدام اللغة العربية الفصحى وأضعف قدرتهم على التعبير الدقيق. ويظل خطر اندثار الصحافة الورقية قائمًا. يواجه هذا القطاع أزمة وجودية حقيقية؛ إذ أن استمرار التراجع قد يؤدي إلى اختفاء الصحافة الورقية بشكل كامل خلال السنوات القادمة، إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة لإنقاذها. محاولات الإنقاذ.. بين الطموح والواقع بدأت بعض الجرائد في تقديم محتوى رقمي متميز يجمع بين العمق الصحفي والتقنيات الحديثة مثل البودكاست والفيديو القصير، ما ساهم في استقطاب شريحة جديدة من الجمهور تبحث عن المعلومة بأسلوب معاصر وجذاب. شهدت الجزائر في السنوات الأخيرة مبادرات متعددة مثل معارض الكتاب وبرامج القراءة في المدارس، إلى جانب تنظيم أيام وطنية للقراءة. غير أن هذه الجهود تظل غير كافية بالنظر إلى حجم المشكلة وتحتاج إلى استراتيجية وطنية متكاملة. تحاول بعض الصحف إعادة صياغة مقالاتها بشكل أكثر تفاعلية، مع إقحام تحقيقات ميدانية وتقارير معمقة تلبي شغف القارئ الباحث عن المعلومة الدقيقة والمتوازنة، ما يمثل خطوة إيجابية نحو استعادة الثقة. بادرت بعض المؤسسات الإعلامية إلى التعاون مع الجامعات ومراكز البحث لتعزيز القراءة الأكاديمية وتشجيع الطلبة على الاطلاع المستمر، وهو توجه من شأنه أن يعيد للقراءة مكانتها كرافعة للوعي والمعرفة. مستقبل القراءة والصحافة الورقية.. إلى أين؟ يبدو أن المستقبل يحمل الكثير من التحديات للصحافة الورقية في الجزائر. ومع استمرار تغلغل الرقمنة في الحياة اليومية، أصبح من الضروري التفكير في نماذج جديدة تزاوج بين الورق والرقمي، تتيح تقديم محتوى ذي قيمة مضافة يليق بجمهور ذكي ومتطلب. ويبقى السؤال مطروحًا: هل ستستطيع الجرائد الجزائرية التكيف مع هذه المتغيرات الجذرية وتستعيد مكانتها في المشهد الإعلامي، أم أن الرقمنة ستكتب الفصل الأخير في مسيرة الصحافة الورقية؟ تحديات العصر الرقمي ورؤية المستقبل في عصر تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه وسائل استهلاك المعلومة بوتيرة غير مسبوقة، تبدو الحاجة ملحة لإعادة التفكير في علاقة الجزائريين بالقراءة، سواء عبر الصحافة أو عبر الكتب. إن إنقاذ الصحافة الورقية وتعزيز ثقافة القراءة يستلزم رؤية شاملة تجمع بين تشجيع الابتكار في المحتوى وتطوير البنية التحتية الثقافية، مع الاستفادة الذكية من الثورة الرقمية بدل مقاومتها. وحدها هذه المعادلة المتوازنة يمكن أن تعيد للقراءة بريقها المفقود وتمنح الصحافة الجزائرية نفسًا جديدًا يليق بمستقبل بلد يتطلع للنهوض بثقافته وإعلامه.