براعة إيزابيل الليندي في روايتها ابنة الحظ..

افتتان بالعالم البعيد والتوغل في التاريخ .

الفكرة التي تخطر لي كلما قرأت لإيزابيل الليندي ليس أن هذه الكلمات وهذا الأسلوب الملمّ بالتاريخ ودقائق الماضي إنما هو ينتمي لرجل بأكثر كثيرًا مما ينتمي لامرأة فحسب،ولكن أيضًا أن هذا الرجل لابد وقد عاش في ماض سحيق وهذه الكلمات إنما كتبت في أزمنة تليدة وها هو وصفها الذي جرى تسجيله في عهدها نقرؤه اليوم مرويًا ومحكيًا بيراعِ ملكة لا مثيل لها ! إن افتتان إيزابيل بالعالم البعيد يتبدى دومًا جليًا في رواياتها ،دومًا قصص ماوراء البحار والمغامرات في الطرف الآخر من الأرض حيث حكايا عجيبة من دواعي سرور أبطالها تصديقها كلها. تخيل أن يتجلى خليط عجيب يجمع بين براعة وقوة نجيب محفوظ وروعة وطول سرد ليو تولستوي ،هذان العملاقان اللذان لطالما أكبرتهما ولطالما سحباني خلفهما في رحلات وحكايات لا تنتهي ، بقدرة حكائية مدهشة تكاد تكون معجزة بأكثر مما هي ملكة حيزت لهما ! وإيزابيل الليندي قادرة على رواية الحكايات بصبر وتفصيل يبث الحياة في كلماتها بكل قوة ،فكل رواياتها ملونة مذهلة وحية بصورة تكاد تجعلها تتنفس دونك ! كنت دومًا أمقت أن أقرأ لأحد من أهل الحاضر وهو يكتب قصصًا عن الماضي إلا في حدود ضيقة ومن خلال أكثر الأدباء براعة وموهبة ،غير أن إيزابيل الليندي أثبتت لي أنه يمكن أن يولد من بين ظهورنا كاتب على درجة «ديكنزية» من الموهبة والقوة !  إلزا وُجدت في علبة صابون أمام أسوار منزل لندنيّ فاخر في إحدى مدن تشيلي ، روز التي كانت تناهز العشرين من عمرها والتي قررت عن اختيار هجر الزواج للأبد ونذر قلبها لحبيب غامض منسيّ، وجدت نفسها تتعلق بكل أمومتها المخبوءة بهذه الرضيعة السمراء النحيلة ،هكذا شبت إلزا بين غرف هذا القصر الصغير المترف ، ترتدي فساتين الأميرات تارة وأسمال الخدم تارة أخرى حين تنساها روز في حمأة انشغالات أخرى فتقع مسؤولية العناية بها على عاتق الخدم، وهكذا تعلمت فنون الرقص وعزف البيانو والتحدث بطريقة الارستقراطيين الأثرياء جنبًا إلى جنب مع مهارات الطهي التي كانت تسحرها وتغذي موهبتها الشمية الفائقة والخياطة وأساليب الطب الشعبية ،هكذا أيضًا كانت لها من حيث لا تدري والدتان،روز والطاهية الإسبانية الحنون فرانسيسكا،ثم تقع في الحب إلزا،وعندما يسافر الحبيب إلى أرض الذهب الموعود في لوثة جنونية أصابت الجميع،تقرر إلزا أن تتبعه فتطلب المساعدة من بحار صيني لا تكاد تعرفه ليخبئها في جوف أول سفينة شراعية راحلة إلى كاليفورنيا،دون أن تدري أن حياة جديدة غريبة رحبة بصدد ابتلاعها أو أن صداقة هذا الصيني الغريب ستكون أثمن من كل الذهب الذي حوته أراضي كاليفورنيا. بطريقة ما ، ما أعجبتُ قط بإلزا ولا أقنعتني موجة الأحداث التي كانت سببًا في تحول مصائر أبطال الرواية، ليست قوية وليست مقنعة أما السرد فمترابط ومحكم ،يمتزج فيه التاريخ بأحداث الرواية في تضافر عجيب وفطري وطبيعي للغاية يجعل من أبطال إيزابيل وكأنهم حقًا وفعلًا منتمين إلى هذا التاريخ العتيق ! وسرعان ما تبدى لي بأن افتتان إيزابيل الأساسي هنا إنما هو بالتاريخ،تاريخ تشيلي وتاريخ سان فرانسيسكو التي تكونت ونمت على إثر هجرة ملايين الرجال من شتى البلدان في حمى اكتشاف الذهب والبحث عنه في بطن هذه الأرض الخصبة الثرية ، ولهذا تمضي فصول الحكاية معظمها تحكي لك عن تفاصيل هذه الأيام وقصص الناس وقتها في منتصف القرن التاسع عشر ! فكانت إيزابيل تسرح بالكلية في وصف الجموع المتدفقة أو الرحلات البحرية الرهيبة التي تستغرق شهورًا بينما ركابها ثملون بالوعد بالذهب والثراء السريع أو في وصف سان فرانسيسكو القاحلة والغاصة بالمهاجرين من كل لون حتى تتذكر أخيرًا القصة التي كانت تحكيها فتحشر بضع أسطر قسرًا للحديث عن إلزا وصديقها الصيني الحكيم !  إن أمتع ما يمكن أن يصادفك في هذه الرواية هي قدرة إيزابيل المذهلة على تدوين بدايات التاريخ البازغة كفجر وليد ،المنبلجة كبذور تينع ناضجة،تحكي بصبر وأناة تاريخ كاليفورنيا مذ كانت سهولًا ومراعي يحكمها الهنود الحمر ويتقلبون بين روابيها وحتى هاجر إليها خليط أجناس متنوع من التشيليين والصينيين والإسبانيين والمكسيكيين والبريطانيين المتعجرفين باعتقادهم أنهم سادة العالم وأنقى جنس بشري منه ! شباب متحمس تلهب دماؤه قصص الذهب وحكايا الثروات المكتشفة في أعماق الجبال والملقاة في مياه البحيرات الغنية بتبر المعدن الثمين ! وما فاجأني أن الحكايا كانت صادقة وأن تلك الأرض الخصبة القصية كانت بالفعل محملة بالخيرات ،غير أنه في ظل اندفاع مئات الآلاف عبر السفن ،قادمين من بيوتهم وقد خلفوا كل شيء وراءهم من أسر وأبناء ومهن ومنصب وثقافة ليحفروا بأيديهم العارية التراب والحصى أملًا في الاغتناء الموعود، وفي ظل مثلك تلك الهجرة غير المحسوبة كان الثراء الحقيقي من نصيب الشركات الكبرى التي أتت بمعاول ومعدات تشق الجبال وتنهب أي ثروة محتملة بسهولة وبيسر ،وانتهى الأمر بالكثير من هؤلاء إلى العمل مأجورين تحت قيادة تلك الشركات في ظروف تبدو شبيهة بتلك التي هاجروا أوطانهم وتركوها ! الثراء السريع أيضًا كان من نصيب كل من أعمل عقله وفكر ببيع البضائع التي كانت تندر في هذه الأرض لذاك الجيش المتكاثر من الرجال ،من طعام وفاكهة وخضر وتبغ وشوكولا وحتى تجارة المواخير التي ازدهرت حينها والتي بكل أسف أكدت لي كم أن سان فرانسيسكو ابنة فاسدة بطبعها !  ممتع جدًا هذا التوغل في عمق التاريخ ،فإيزابيل تدنيك جدًا من ذلك الماضي القيم وتعيد بعثه صورة صورة دون عينيك فإذا بك تعيش بالضبط ما عاشوه وتتنسم ذات الهواء المحمل بالأتربة الذي اختنقت به صدورهم ! هونغ كونغ، تشيلي، سان فرانسيسكو،هذه المدن الثلاث التي شكلت محاور قصتها ، إلزا وتاو شين ،وسلاسة طويلة من المعاناة والكفاح والجوع الذي يفتت البطون والتجول أشهرًا في سهول كاليفورنيا حيث الرياح وقطاع الطرق والعربات الجوالة وجنون الأحلام كلها تواجههم وتمسي جزءًا من أيامهم ومسيرة حياتهم ،وفي قلب هذا التيه تتبدل المصائر ويُنسى الماضي وتُفتح صفحات جديدة ،وكعادة إيزابيل الليندي فإنها لا تتورع عن الكتابة التفصيلية عن فظائع وقسوة ما جرى وقتها،حيث الموت والقتل والفتيات الصغيرات اللواتي يُبعن ويُتركن لتتعفن أجسادهن وحيث المجاعات والظلم والرعب أمور في غاية الواقعية . إن ما يفتن إيزابيل حقيقة هنا هو هذا التاريخ الجنوني العظيم الذي وقعت أحداثه قبل ما يقرب مائتي عام ، وهكذا مدفوعة بعشق لا يقاوم لحكاياته تنسج إيزابيل هذه القصة القصيرة جدًا بين أربعمائة صفحة تعيش فيها بكل حواسها تلك الأيام الماضية المذهلة !