
يقول أندريه موروا: « يهدف الفن إلى خلق عالم أكثر إنسانية ، موازٍ للعالم الحقيقي «.. فالفن والأدب يخلقُ للفنان وللعالم توازنه الروحي، وتحويل القبح إلى جمال والألم إلى لذة عارجة، من هنا أجدني متلقيًا متحمسًا لقراءة ديوان الشاعرة زهراء الشوكان « أُلَوَّنُ صوتَ المجاز « وهو صوت الأنثى الذي يستشرفُ ويتنبأ لخلق جيلٍ واعٍ ومتفتح على فضاءِ النص الشعري الحديث، واضعًا بصمته الخاصة وعنفوانه الفارع على خارطة الشعر والأدب القطيفي خاصة. ونحن هنا أمام تجربة تشكلت بعد مسيرة من الإبداع، وتنوعت من عدة فنون كالتشكيل وغيرها، حتى أفرزت لنا شاعرة تشي بالكثير من الألقِ والإبداع. وحين نقترب من تجربتها عبر هذا الديوان سنقف أمام عدة ظواهر كاشفة على تنوعها ووعيها الكتابي الشاعرة التشكيلية: لا شك أن الفنان التشكيلي والشاعر يلتقيان في مساحات كثيرة، بل تداخل الفنون في القصيدة من الأمور المطلوبة والمحفزة على تشكل ثقافة الشاعر وعمق تجربته. فسنجد الشاعرة تفصح عن موهبتها الفنية، وذلك من خلال المفردة والمعالجة الشعرية والتراكيب واستدعاء الفن بكل مكوناته.. فحين تعنون الديوان ب « ألون.. صوت .. المجاز « تتضح لنا سيطرة الألوان كمعادل فني للشاعرة، والصوت مؤشر على أنها كائن سمعي يطرب لجماليات الموسيقا الكونية والجمالية، والمجاز تكشف لنا عن دلالة ما ورائية لهذا التركيب الرائع، فكيف استطاعت الشاعرة أن تخلق للمجاز صوتًا.. ثم تمكنت من تلوين هذا الصوت.. وهذا بحد ذاته يضيء لنا من عتبته الأولى أنها تجربة عذبة تحاول أن تخلق لها بيئتها النصية المغايرة ، وذلك بتداخل الفنون البصرية والسمعية واللغوية، مهمة توضح مدى تنوع الاشتغال داخل هذا العمل الشعري الجميل. تجليات التشكيل: لن أحتاج لمزيد من الوقوف على هذه الظاهرة وسأكتفي بعرضها تقول الشاعرة: - متصبغًا بشهي ألوانِ الهوى - ومجسدًا طعمَ العنادِ ولونهُ - طيفي المطل بلوحتي مترددًا - فوجدتُ في رسمِ المجازِ حقيقتي وكذلك حضور الشخوص التشكيلية في نصوصها كـ “الموناليزا» و« بيكاسو» و«دافنشي» و«فان جوخ» و«سلفادور» تقول في ارتباطها بالفن: أُعَلّمُ الفنَ للآفاقِ أرسلهُ طفلًا نما كاملًا في دفء عاطفتي وتدعو قائلة: ارسم بروحي ألونًا مُعتقةً خيالها الخصب بالفردوسِ يغريني لاحظنا كيف يتمظهر الفن على لغة الشاعرة بكل مكوناتها داخل القصيدة من خلال الإحالات والتراكيب وإعطاء المساحة اللونية أهميتها في لغة النصوص... *........ ..... ...... تجليات الأنا يقول فاضل ثامر: « قصور الأنا في التجارب الشعرية تشكل تحولات الذات المعلنة والكامنة المنطلقة من هاجس يحمل دلالات الخصوبة الشعرية المراوغة التي تخدش أفق توقعات المتلقي ، لاسيما عند الشعراء المبدعين لتكون دلالة على التجارب الأكثر نضوجًا وحيوية « فتتمظهر الأنا عبر تمرحل الزمن والموقف والرؤية الكونية، فنجد لدى الشاعرة تتعدد لديها الأنا الشاعرة حسب مواقفها من الكون والحياة. 1 - الأنا الغيبية: تقول الشاعرة: أنا التي سافرتْ في روحها أبدًا لكي أشكلَ في دنياي جوهرتي أنا التي عثرتْ في نفسها زمنًا تستلهمُ الغيبَ كي تأتي بأجوبةِ 2 - الأنا المغامرة: لم تعد وظيفة الشعر في خلق نظم إشاري لغوي وأسلوبي فقط ، بل لابد للشاعر أن يكون مغامرًا فاتحًا لجزر المعاني وفضاءات الرؤى، وكلما اقتحم الشاعر تحديات الابتكار والتجديد كان أكثر وفـاءً للنص الشعري وللقارئ، ونجد هنا ماتشيرُ إليهِ الشاعرةُ في بعض أبياتها ، مؤكدة إلى أنها تلامس موضوعات فكرية وتحديات بلغة لافتة، متحدية السائد والمألوف. تقول في نص بين هاجسين: وأنا التي كَسْرّتُ قيدي والتي جَمَّعْتُني من ذارياتِ رفاتي وأنا الزعيمةُ والعنيدةُ والتي جرتْ الفنونُ بهيةً من ذاتي فأنا نقيضي كلُ ضدٍ في دم يتعاركانِ ويصنعانِ شتاتي : الأنا الصائتة - يقول محمد بنيس: « القصيدة كلام يديم الكلام لأنه فيها يبلغُ حدَّ الشطح ، الذي ينقل اللغة إلى الصفاء ، الشطح هو قوة انبثاق اللغة من الكلام الشعري، والقصيدة تأتي مِنْ نَفَسٍ ينفخُ في الكلام ، واهبًا إياه لا ما يُعَبّر بل ما يخلق لك ولي ميلادًا متجددًا ، إبداعًا إنسانيًا ، لا نهائيًا للكلام. لم يكن الشاعر العربي ينصت فقط لصوت القصيدة في القصيدة». لذلك نجد الشاعرة تعي ما تكتب وتنظر لذاتها فتحضر ذاتها بكلِّ عنفوان فتقرأ لها نص ثورة شاعرة: فعبستُ حتى شعَّ حرفي غاضباً وتساقطتْ مني القصائدُ ثائرَةْ وتَلَوّنَ الصبحُ النّديُّ بفرشتي ورسمتُ حتى الشمسَ وهي مسافرَةْ ضجَ الفضاءُ بما تهاطلَ منكَ يا فسألتُ يا مـــاذا ؟ فهمهمَ شاعرَةْ ؟! هي روح الشاعر لابد أن تكون حاضرة وتتمازج بكل تجربة الشاعر منذ « أنا» المتنبي ، الحاكية إلى كلّ مَنْ يفخر بذاته الشاعرة ، ومن خلال هذه التجربة للشاعرة « التاروتية» نجد الكثير من المساحات المضيئة، فنجد رائحة المكان عبر نصوص أهدتها الشاعرة للقطيف أرض الحضارات ، ولتاروت حيث أسطورة عشتار وجلجامش، تقول في نصها «قطيف الندى» : سلامٌ على «تاروتَ» و «الخطِّ» إننــي على أرضها الخضراء عشتُ سلاميا ومن نصها «عشتار الجمال» : «تاروتُ» يا دانةً في البحرِ وادعةً عنكِ المدائنُ جمعًا ليس تُغنيني ما كان «جلجامشٌ» يعلو على شغفي ولا رؤاهُ بماءِ الخلدِ تُلهيني أتيتها «سومريًّا» ينتشي ولهًا فكانت العشقَ في أولى الدواوينِ هنا نحن أمام تجربة تشي بالكثير من الثراء المتنوع في ضَخ القصيدة بمفاهيــم الإنسانية، والوعي الشعري القادم بكلِّ عنفوان ، تداعب المشاعر عذوبَّةً ورقةً، تصالح كلَّ من حولها حضور الآخر بكل تجلياته، بين الأرض والإنســـان والروح العاشقة ، الشعر لديها خَلْقٌ يحاول أنْ يتجدد ويتنفس الحبَّ والضوء.