أين تذهب أموال الحج؟!

تعدُّ رعاية الحرمين الشريفين (المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة) شرفاً عظيماً تحمله المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز آل سعود عام 1932. فهذان الموقعان هما قبلة المسلمين حول العالم، ومقصد ملايين الحجاج والمعتمرين سنوياً. لكن هذه المسؤولية المقدسة تقترن بتكاليف هائلة تتجاوز بكثير ما يُتصوَّر، لدرجة أن ميزانية تشغيلهما وصيانتهما تفوق ميزانيات دول بأكملها. فكيف تُموّل السعودية هذه المشاريع؟ وهل تعتمد على عوائد الحج أم على موارد أخرى؟ تكاليف تشغيل الحرمين أرقام تُذهل العقول ، نعم فهي تشمل تكاليف التشغيل ليس فقط الصيانة اليومية، ولكن أيضاً التوسعات الضخمة، وتطوير البنية التحتية، وتوفير الخدمات اللوجستية والصحية والأمنية. وفقاً لتقارير وزارة المالية السعودية، بلغت تكلفة توسعة الحرم المكي وحده أكثر من 80 مليار ريال سعودي (حوالي 21.3 مليار دولار) بين عامي 2011 و2020، شملت زيادة طاقة الاستيعاب إلى مليوني مصلٍّ، وإنشاء جسر الجمرات المتطور، ونظام التبريد الذكي في المطاف. أما المسجد النبوي، فتشمل توسعته إنشاء مظلات عملاقة ومرافق تحت الأرض بتكلفة تجاوزت 25 مليار ريال (6.6 مليار دولار). ولا تقتصر التكاليف على البناء، فالصيانة السنوية للحرمين تستهلك مبالغ طائلة. على سبيل المثال، يُنفق على تنظيف الحرم المكي يومياً ما يقارب 5 ملايين ريال (1.3 مليون دولار)، بينما تصل تكلفة الكهرباء والمياه إلى 2 مليار ريال سنوياً (533 مليون دولار)، وفقاً لهيئة تطوير منطقة مكة المكرمة. يُطرح سؤالٌ من قبل بعض المرجفين: “أين تذهب أموال الحج؟”، متجاهلين حقيقة أن عوائد موسم الحج لا تكفي وحدها لتمويل هذه المشاريع. ففي عام 2023، بلغ عدد الحجاج حوالي 1.84 مليون حاج، دفع كلٌّ منهم رسوماً تتراوح بين 3,000 إلى 15,000 ريال حسب الباقة المختارة. وبحساب متوسطي، قد تصل الإيرادات المباشرة للحج إلى 10-15 مليار ريال (2.6-4 مليار دولار) سنوياً، وهو رقم ضئيل مقارنةً بتكاليف التوسعات والصيانة التي تتجاوز 50 مليار ريال (13.3 مليار دولار) سنوياً. تُظهر بيانات وزارة المالية السعودية أن الإنفاق على الحرمين يأتي من الميزانية العامة للدولة، التي تعتمد في الغالب على عوائد النفط. ففي عام 2023، بلغت ميزانية السعودية 1.13 تريليون ريال (301 مليار دولار)، خُصص منها 19 مليار ريال (5 مليارات دولار) لقطاع الشؤون الإسلامية، يشمل صيانة المساجد وتطويرها، بالإضافة إلى مشاريع مثل وقف الملك عبدالعزيز الذي يُعدُّ أحد أكبر الأوقاف الإسلامية العالمية بتمويلٍ حكومي. كما تُدعم المشاريع عبر صناديق استثمارية كصندوق الاستثمارات العامة، الذي يُموّل مشاريع البنية التحتية ضمن رؤية 2030، مثل قطار الحرمين السريع بتكلفة 60 مليار ريال (16 مليار دولار)، ومطار جدة الجديد بتكلفة 30 مليار ريال (8 مليارات دولار). وجهة النظر التي تشكك في مصير أموال الحج تُغفل ثلاثة أمور: 1. الاستثمارات غير المباشرة: كتطوير الطرقات، والمستشفيات (مثل مستشفى الملك عبدالله التخصصي)، وأنظمة الذكاء الاصطناعي لإدارة الزحام. 2. الأمن والسلامة: يُعتبر تأمين الحجاج أحد أكبر التكاليف، حيث تُشارك عشرات الألاف من القوات الأمنية والطبية، بتكلفة تتجاوز 3 مليارات ريال سنوياً. 3. البُعد الديني: السعودية لا تنظر للحرمين كمشروع اقتصادي، بل كواجب ديني. فقد صرّح الأمير محمد بن سلمان: “الحرمين أمانة في أعناقنا، ولن ندخر جهداً في خدمتهما”. السعودية، برؤيتها الاقتصادية و وفرة مواردها، تثبت أن الحرمين الشريفين ليسا عبئاً مالياً، بل مصدر فخرٍ وطني وإسلامي. فالقيمة الروحية لهذين الموقعين لا تُقاس بالمال، والتكاليف الهائلة تُغطى من إرادة سياسية واقتصادية قوية، وليس من رسوم الحجاج. كما أن الشكوك التي تثار حول “اختفاء أموال الحج” تُجيب عليها الأرقام والشفافية المالية التي تعتمدها الدولة في تقاريرها السنوية. بهذا، يصبح السؤال الحقيقي ليس “أين تذهب أموال الحج؟”، بل “كيف استطاعت السعودية تحويل تحدٍّ لوجستي إلى نموذج للعطاء الإسلامي؟!”.