لمحات من أسفار الشيخ الرحّالة.

كان الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمه الله، أثناء عمله في الهيئة العليا للدعوة الإسلامية وفي رابطة العالم الإسلامي، يسافر إلى أركان الأرض، مستطلعاً لأحوال المسلمين، وسفيراً شعبياً في مختلف أصقاع الدنيا. فكأن الشيخ هو “ابن زُريق”، الذي يقول عن نفسه: يكفيهِ من لوعة التشتيت أنّ لهُ من النوى كُلّ يومٍ ما يُروّعهُ ما آبَ من سفَرٍ إلا وأزعجهُ رأيٌ إلى سفَرٍ بالعزم يُزمِعهُ كأنّما هو من حلٍّ ومُرتَحلٍ مُوكَّلٌ بفضاء الله يذرعهُ ألّف الشيخ أكثر من مائة وخمسين كتاباً مطبوعاً عن تلك الرحلات، وكان له برنامج إذاعيّ يُبثّ من إذاعة القرآن الكريم بعنوان: “المسلمون في العالم.. مشاهد ورحلات”، يتحدّث فيه الشيخ عن تفاصيل تلك الرحلات، ويستضيفه فيه الدكتور محمد المشوّح. وقد كتب الشيخ قصيدة عن تلك الرحلات التي قام بها، ومنها هذه الأبيات: أقولُ وقد جاوزتُ سِتّين حجّة ألا ليت شِعري ما يؤول له أمري رأيتُ بِقاع َ الأرضِ طُرّاً وطوّفتْ بي الرّحلُ من بَرٍّ بعيدٍ إلى بَرّ وزُرتُ بلاد السّند والهند كلّها وما كان خلف الهند قُطراً ورا قُطرِ وفتّشتُ بُلدان الأفارقة التي يحلّ بها السّودان من أقدمِ الّدّهرِ وأمريكة الوسطى ومَن في جِوارها من السّودِ والكاريبِ في الأرضِ والجُزرِ وألّفتُ في الرّحَلاتِ كُتباً كثيرةً سبقتُ بها الكُتّاب في العَدِّ والحَصرِ وقد أصدر الأستاذ “عبدالعزيز العويّد” كتاباً بعنوان: “لطائف من رحلات الشيخ الرحّالة محمد بن ناصر العبودي”؛ جمع فيه اقتباسات طريفة من كُتب الشيخ، وقال المؤلّف في مقدّمة الكتاب: “من خلال تتبّعي لكثيرٍ من كُتب الرحلات، رأيتُ أجلّ الرحلات قدراً وأعظمها شأناً رحلات الشيخ العبودي، لما تميّزتْ به من سعةٍ وكرَم المقصد منها، فهي تحوي كنوزاً حَريّ بجمعها والاستفادة منها”. وربّما كان من المناسب أن نعرض هنا شيئاً مما تحفل به كُتبه من الفوائد العامة التي لاحظها الشيخ العبودي، والمواقف التي واجهها، والطرائف التي تحدّث عنها في سياق تلك الرحلات، ومنها: في أحد شوارع “لاجوس” في “نيجيريا” بينما كانت السيارات تزحف زحفاً وئيداً، كانت أمامنا سيارة جديدة قد كُتب على آخرها، بخطّ بارز بالإنجليزية: Trust No Body أي: لا تثق بأحد. والحقيقة أن هذه العبارة هي شعار الفنادق والمطاعم والمحلّات العامة في هذه البلاد، حتى فنادق الدرجة الأولى أخذتْ بها حرفياً، فهي لا تسمح بإسكان الشخص إلا بعد أن يدفع ثمن المبيت في الغرفة مُقدّماً، مُضافاً إليه مبلغاً بمثابة تأمين! وعن برودة “خوارزم” في غرب آسيا الوسطى، قال “ياقوت الحموي”: “وقد اجتهدتُ أن أكتب شيئاً بها -أي خوارزم- في الشتاء، فما كان يُمكنني، لجُمود دواة الحِبر، حتى أقرّبُها من النار وأُذيبها”! وفي جُزر “مارتينيك”، على البحر الكاريبي، ثار بُركانٌ دمّر عاصمة الجزيرة “سان بيير”، وذلك في عام 1902، وقتل أهلها عن بكرة أبيهم، ولم يسلم منهم إلا شخصٌ واحد، كان مسجوناً في سِجنٍ في أطرافها، منعتْ أسوار السجن القوية عنه الحِمم التي وصلتها! واسم مملكة “تايلاند” أطلقه أهلها على بلادهم، بديلاً عن الاسم القديم المشهور “سيام”.. لأن معنى “تايلاند” هو بلاد الأحرار، ويزعُمون أنهم يستحقّون هذا الاسم لأن بلادهم لم تُستعمر، على حين أن المنطقة المحيطة بها كلّها قد ابتُليَتْ بالاستعمار؛ ما بين إنجليزي في الهند وبلاد الملايو، وفرنسي في فيتنام وكمبوديا ولاوس، وهولندي في إندونيسيا. وعن طبيعة الشعب التايلندي المُسالمة، هناك مثلٌ تايلندي، يقول: “الأرز في الحقل، والسمك في الماء”.. وقد نُظِم هذا المثل في أغنية تؤكّد هذا المعنى، وتقول: ما دام أن الرُّز موجودٌ في الحقل والسمك موجودٌ في الماء وهُما عندنا سهلا التّناول فلماذا نحمل هَمّ العيش، ونقلق على المستقبل؟ ومن الطريف في جزيرة “بالي” الإندونيسية، أنهم يضعون ما يبيعونه في أوراقٍ من ورق الموز الأخضر النّضِر، بدلاً من أكياس الورق، فهو عندهم أوفر وأرخص! ورأى الشيخ في “بولندا” عجوزاً مُسنّةً في “بولندا” في حدود التّسعين، فظنّ أنها مُسلمةً، فسألها عن ذلك بواسطة المُترجم، فذكرتْ أنها مسيحية.. وسألها بعد ذلك عن سِنّها، فقالت بحدّة: “وهل تُسأل المرأة عن سَنّها”؟ مع أنها عجوزٌ من الغابرين! والعُملة في “الفلبّين” هي “البيزو”، أو “البيزة” كما كُنّا نقول قديماً.. وأصل الكلمة أسبانيّ بلفظ “بيزيتّا”، وهو تحريفٌ للكلمة العربية “بسيطة”؛ التي هي عُملةٌ كانت رائجةً في “الأندلس” إبّان الحُكم العربيّ. وفي مدينة “ديترويت”، بنى المُهاجرون العرب للولايات المتّحدة مسجداً في مفي سنة 1977، واستمرّوا يُصلّون فيه أكثر من عشرين عاماً.. ولما جاءهم أحد العُلماء من البلاد العربية زائراً عابراً، ورآهُم يُصلّون، قال: “أنتم تُصلّون إلى جِهة “البرازيل”، وليس إلى القِبلة”! وسألهم: “كيف جعلتم القِبلة تتّجه إلى الجنوب بدلاً من الشرق”!؟ فقالوا: “إننا كُنّا في بلادنا “لبنان” نعرف أن القِبلة إلى جِهة الجنوب، فلما جِئنا إلى هذه البلاد جعلناها جِهة الجنوب كذلك”! وبعد لأيٍ ومساعٍ عديدة، تمّ تغيير قِبلة المسجد إلى الاتّجاه الصحيح. •قيل أن الإمام “عبدالرحمن السيوطي” كان يأمر تلامذته بإعداد كتابٍ من فَنّ من الفنون، ثم يقرأه ويكتب عليه أنه من تأليفه! على اعتبار أنه موافِقٌ على ما جاء فيه! وحمل الناس على هذا الظنّ كثرة مؤلَّفات “السيوطي”، بالرغم من كونه غنيّاً، ورِث عن والده أموالاً وعقارات من أراضٍ زراعية وغيرها. •أول ما يُصافح بصرك، وأنت تقترب من مكتبة “الغازي خسرو بيك” الأثرية في مدينة “سراييفو”، لافتة عربية أصيلة كُتبتْ بخطّ تُركيّ جميل، تقول: “بسم الله الرحمن الرحيم، فيها كُتبٌ قيّمة، سنة 1173”. وهذه اللّافتة العربية هي عنوان صادق، لما تحفل به هذه المكتبة من القيمة بالفعل؛ من مخطوطات عربية ذات قيمة تاريخية. حيث أخبرنا مدير المكتبة أنها تضُمّ خمسة عشر ألف كتاب مخطوط، ومنها كُتب نادرة بالعربية، مثل “القانون في الطّب” لابن سينا، وهي نُسخة وحيدة في جميع أنحاء العالم.