إهانة غير ضرورية..

جرح الذكورة وفوران الذاكرة.

يشكل البناء التحتي للقيم رافعة للنص. وذلك ضمن ما يسميه أوسبوسكي: منظومة القيم العامة لرؤية العالم ذهنيًا. وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تسليط الضوء على القضايا المنسية ومجادلتها على مستوى القيمة الأخلاقية. وذلك من خلال بلورة الحدث لتوليد جملة من المعاني الكفيلة بإنطاق الشخصيات المقهورة والتعبير عن وجودها. وهذا هو النصاب الأدبي الذي حققه إياد عبدالرحمن في روايته (إهانة غير ضرورية)، حيث جعل من حدث إخصاء الأطفال لتأهيلهم كمخلوقات مطهرة للخدمة في الأماكن المقدسة، في مكة المكرمة والمدينة المنورة، جوهر مرويته. وهو بذلك الإجراء البنائي إنما أراد من الوجهة الأدبية إرباك صورة (الأغوات). تلك المهنة التي يُنظر إليها من خارج صيرورتها كمهمة مقدسة، كما يُنظر إلى الأغوات كمخلوقات مصطفاة ومصفاة من الشرور والآثام، من دون أي اعتبار لما تعرض له هؤلاء أثناء طفولتهم من اجتثاث وحشي لذكورتهم. هكذا شيد إياد عبدالرحمن روايته على المستوى الفني من المنظور النفسي. كما تبنى موضوعيًا مروية الإخصاء الإرادي الذي يرتكبه الأهل في حق أولادهم، صارفًا النظر عما يُشاع حول وقائع الإخصاء بواسطة القبائل المنتصرة في الحرب لقطع نسل القبيلة المهزومة، أو ما قيل عن تعرض أطفال الحبشة للإخصاء من قبل الاستعمار الإيطالي لإفناء الشعب الأثيوبي. وهو بذلك يمارس حالة من التصعيد الأخلاقي ضد القوى المتورطة في قتل طفولة الأطفال وجب ذكورتهم بدءًا من والدته التي أمرت بإخصاء طفلها آدم وهي تردد: “كل ذلك من أجلك يا الله”، مرورًا بالشيخ قاسم في اليمن الذي أخضعه لتفتيش جسدي على درجة من القسوة والخشونة للتأكد من انعدام أعضاء ذكورته، وصولًا إلى المدينة وعمله تحت إمرة الأغا الصارم (النقيب). لقد بدا من الواضح في مجمل مفاصل الرواية رغبة إياد عبدالرحمن في هدم معبد الأغوات، وتفكيك تلك البنية الطهورية المغلفة بالأسرار. وذلك من خلال سردية تلامس إنسانية أخلاقية المقدس بجرأة لافتة وتسمي الأشياء بلا تردد ولا احتراز. وقد اقتحم ذلك الموضوع بمشرط معرفي حاد الحواف، وبروح نقدية منفتحة، كما ينم عن ذلك درايته الواضحة ببروتوكول الأغوات الطقسي وعوالمهم الداخلية وما يتداعى عن ذلك من عادات ولباس (شال السّليمي وكوفية الفرخيشمك) ومأكل (الويكة والعصيدة والفرو فرو والسيريه والمديدة). كما غاص في العالم السفلي لعالمهم بوجه خاص، ورسم معالم المكان التشكيلي لفضاءات الأفارقة بمختلف أعراقهم في مكة والمدينة وجدة بوجه عام كالهوسة والبرانوة والفلاليت والزبرما. أما آدم فقد كان جرحه النرجسي هو محور الرواية، إذ لا يبرأ على المستوى الحسّي ولا يغادر الذاكرة على المستوى النفسي. ولذلك تبأرت الرواية في حدث الإخصاء الذي اخترق الرواية عموديًا منذ أول سطورها فجاءت كردة فعل على جرح الذكورة وكفوران للذاكرة لاستعادة سيرة الذات المنكل بها. حيث أدت الطفولة المقتولة والذكورة المجبوبة إلى تأنيث آدم في نهاية المطاف من خلال علاقته الشاذة مع راجح الذي أشعره لأول مرة في حياته بمرغوبيته، مقابل الحرمان الذي عاشه. وكان فد عاش في طفولتها فصلًا مع محسون لمداواة رضته النفسية، فجريمة الإخصاء لم تحرمه من ذكوريته فقط، بل أفقدته كل إمكانياته للبقاء، وبذلك انعدمت قدرته على الحب. كما عبر عن ذلك إثر انهيار علاقته مع مريم بقوله: “إن الأغوات غير مؤهلين لاختبار قصص العشق. والغاية، كل الغاية من خلقهم لا تتجاوز التفرغ لخدمة الأماكن المقدسة. في الحقيقة، أنا لم أكن أصدق الحديث الدارج بين الأغوات، الذي يقتضي كوننا غير قادرين على تبادل المشاعر العاطفية مع أي شخص آخر لأن هذه المهارة تبددت مع زوال الخصي وأعضائنا الذكورية”. إنها أوديسا آدم، المجتث من عشة متهالكة في قرية منسية بالحبشة، الذي استيقظ من أحلام طفولته “مخصيًا ومحشورًا داخل نسيج غليظ من الخيش” تحمله أمه باتجاه اليمن ليمكث بعض الوقت في ساحل اللُّحية، حيث يتلقى في اليمن بعض التأهيل العلمي والروحي، ليُقذف به لاحقًا في المدينة المنورة ليعمل مع الأغوات، ثم إلى مكة بعد أن ينشق عنهم، لينتهي به المطاف في مسكن قذر وآيل للسقوط في جدة، وكل ذلك ضمن ما يُعرف بأدب الرحلة، على اعتبار أن الرواية رحلة في المكان والزمان. حيث يتشكل البناء الفوقي للمكان من حركة الشخصيات في الفضاءات جيئة وذهابًا، كما تتغير شخصية آدم وتتطور جراء التحول والتنقل في الفضاءات. بحيث يغدو ذلك الطفل المنتشل من فضاء طفولته متمردًا على مهنة الأغوات المنذور لها، إلى أن يتحول إلى كائن مشرد يحكمه تجسيد مكاني بمعالم منظومة دينية اجتماعية صارمة. مع قناعة راسخة في وجدانه بألا نصيب له من الحب، كما عبر عن ذلك القدر بقوله: “كان سهلًا عليّ أن أمنح الحب للآخرين، لكنني لم أعرف يومًا أن الجزء الأصعب هو الحصول عليه”. يمكن التقاط ذلك الخط البياني المتصاعد بشكل أوضح في شخصية آدم المتفاعلة مع تبدل الفضاءات من خلال منظومة من الإشارات النصية التي تفصح عن نقلات نوعيه في تماسه بالوجود. وذلك بمقتضى مقارنته لحياته في المدينة تحت إمرة (الأمين) و(النقيب) وحتى الشيخ اسماعيل، حيث اكتسب معجم شتائم بموجب ما كان يتعرض له من توبيخ وإذلال وتهديد بالضرب، مقارنة مع ما تلقاه من (الناظر) في مكة، الذي هذبه وعلمه اللباقة والأدب في الحديث مع الآخرين، كما دربه للتخلي عن “العربجة” واستخدام الصور والرمزيات للتعبير عن مراداته. وكان يتحدث معه عن الغزالي والسنوسي، ويغني له شعر الرعيل الأول من المتصوفة. وكذلك أمّن له وظيفة في خدمة المعتمرين. وكل ذلك كان له أكبر الأثر في شخصية آدم تأكيدًا لمقولة بلزاك بأن المكان الذي يسكنه الشخص مرآة لطباعه. لا بد للروائي من نقطة انطلاق يستأنف منها روايته. وفي رواية (إهانة غير ضرورية) اختار إياد عبدالرحمن حدث الإخصاء كمنطلق، ليركب عليه فيما بعد مجمل الأحداث. وذلك عبر خط زمني لا يعتمد التتالي لئلا يقع في ورطة الحكاية، بقدر ما اختار التسلسل النصي الذي يعتبره توماشفسكي خيارًا أكثر وجاهة للبناء الروائي. ولذلك جاءت الرواية بشكل مضاد للتسلسل الزمني، لصالح التنقلات الزمانية والمكانية وفق ترتيب سببي. حيث جاءت رحلته إلى مكة -مثلًا- مسببة بمرافقة الشيخ اسماعيل للبحث عن زوجته. وهنا نقطة على درجة كبيرة من الأهمية تتمثل في كون الزمن المهيمن على حركات الشخصيات وتنقلاتهم فيما يسميه “من خرابه إلى خرابة” أقرب إلى الزمن الإنساني، الناتج عن وعي الشخصية بالزمن. بمعنى أن الزمن كانت له سمة مشتركة: موضوعية وذاتية. أما الشريط اللغوي للرواية فهو يتجاوز الوصف الساكن إلى الوصف ذي الوظيفة التفسيرية، وكأن إياد عبدالرحمن يعتمد الإشارية عوضًا عن الرطانة المفرداتية، حيث يضغط النص في كبسولة لغوية مكثفة ودالة تؤدي المعنى، كما يتضح ذلك -مثلًا- في هذا المقطع “عشت مع الشيخ اسماعيل فترة قصيرة، ثلاثة أشهر أو ربما أقل، إلا أنها كانت كافية لأن تجعلني أرى قامته وهي تنثني بشكل تدريجي، حتى ما عاد في وسعه الوقوف باستقامة كاملة”. وهذا البورتريه بما يختزنه من معلومات يتدفق عباراتيًا لتفسير سير القص، كما يُدخل القارئ في عالم الرواية بكل أبعادها الواقعية والمتخيلة. بمعنى أن المادة القصصية في هذا المقطع لا تُقدم بصورة تقريرية، إنما وفق نظام إشاري يصعد من مستوى التعبير اللغوي. الرواية، بتصور هنري جيمس، تقوم على التمثيل لا على القص. ولأن إياد عبدالرحمن كان مهجوسًا بالأغوات كموضوع، غلّب فعل القص على التمثيل. حيث سمح لكُتل من السرد الخام بالهيمنة على نصه من دون قدرة أو ربما رغبة لمفصلة أجزاء مهمة من النص وتسييقها. إذ اعتمد على التتالي العباراتي السريع عوضًا عن الوصف المشهدي البطيء. الأمر الذي أفقد النص ركيزة على درجة كبيرة من الأهمية تتمثل في التوتر الدرامي، حيث اكتفى بالإخبار عن واقعة الإخصاء -مثلًا- بمشهد خاطف لم يوخز حواس القارئ. ولم يعط لحظة لقاء آدم بأمه الروحية (مونا) حقها الدرامي بعد فراق طويل. كما تغاضى عما يُعرف سرديًا باللحظات المشحونة، وهي كثيرة جدًا في الرواية بالنظر إلى طبيعة موضوع الرواية ووعورة الرحلة. ربما لأنه تموضع روائيًا في زاوية يصطلح عليها (الرؤية من الوراء) بمعنى معرفة الأحداث والشخصيات والفضاءات بشكل تام بحيث جعل جميع قيم العمل الفنية والموضوعية خاضعة لشخصية آدم باعتباره صوت إياد داخل النص.