(1) تدهشني كثيرًا هذه الشاعرة المجبولة من طينةِ الشعرِ والضوءِ والحرائق...إنها الشاعرة نور البواردي، الطالعة من تربةِ بلادي وردةً للبوح المغاير، والمحلقة في فضاءِ الإبداعِ قمرًا لا يقلّدُ قمرًا سواه، لا يرتدي أقنعة الأغيار، أو معاطف الجثث، تلك الجثث التي تتوهم أنها تنجزُ شعرًا مقمرًا أو بوحًا لم يلمسْ أفْقَهُ أحد. “ نور “ صوتٌ شعريٌّ طازج، مغسولٌ بندى السماء، ومدعوكٌ بفضةِ الأجنحة.. صوتٌ يهبُّ علينا من الجهاتِ المنسيّةِ، محتفلًا بالتفاصيل المُهْمَلَة رافعًا جباهَها الصغيرةَ إلى الأعالي كسنابلِ الحقول.. يتضحُ ذلك جليًّا في ديوانها الأول “ النصف المضيء من الباب الموارب “، الصادر عن دار “الغاوون”، الذي تستدرج فيه “ الغيوم الفقيرة والغيوم البدينة والغيوم الزرقاء “ وتحشو بها حقائبَنا ، تتحدث عن “ مطر ٍ قليلِ التهذيب “ ، وتعيد تعريف “ أصواتنا “، فهي على يديها تستحيل “ سلالَ وردٍ عند الناصية تنشرُ الأغنيات” و تشيرُ إلى “ ما يشبهُ غرفةً كئيبةً في فندقٍ بعيد” ، غرفةً تخيلتُها كقلبِ امرأةٍ منذورةٍ للترْكِ والعزلة. تأسرني نور البواردي هذه التي بقليلٍ من الكلماتِ وبالزهيدِ من الجُمَل وبحفنةٍ من ورودِ اللغة تُحْسِنُ إعادةَ صياغةِ العالم، ومن فُرْجَةٍ في البابِ الموارب تحضُّنا على رؤيةِ كائناتِ الشعرِ البسيطِ، العميقِ، والمختلف، وهي تتنزّهُ بكامل فتنتها. (2) لستُ أدري لماذا أرى هذه الشاعرة هكذا كلما قرأتُها : فتاة تلهو بالغيوم ، بجمرةِ الكتابةِ البكر ..تتسع لها الطرقاتُ كلما مشت، وينمو على ضفافِ شِعْرِها عشبٌ كثيرٌ وسيم، وكلما حدقتْ في الأعالي ضحكَتْ لها السماء..هكذا أرى شاعرتنا المدهشة نور البواردي المشغوفة بالتفاصيل الصغيرة الدافئة في حياتنا اليومية، التفاصيل الجريئة العذبة التي يمرُّ بها العابرون مراتٍ عديدةً ولا يكترثون..نور - التي تكتبُ بصدقٍ فادحٍ - تكتبُ القريبَ من الروح والأثيرَ لدى القلب، تكتبُ الشغفَ المُرَّ والندمَ اليسير...حينما قرأتُ ديوانها الثاني “ الحياة كما لو كانت نزهة ويك إند” - الصادر عن “ طوى “ التي توقفت مؤخرًا لأسبابٍ أجهلُها - ملأتني شعرًا ، ودفعتني إلى حب هذه “ الحياة التي ليس لها وَجْهٌ ولكنَّها تبتسم “ ، وحرضتني نصوصُها لكي ألتفت إلى ليل عزلتي المقفرة، ذلك الليل بعد قراءة هذا الشعر الخالص أمسى ليلًا مدجّجًا بملايين النجوم. (3) نور في جُلِّ نصوصِها تهتمُّ بالحديثِ عن ذاتها وحياتها وشؤونها وشجونها وما يكمنُ في محيطها الإنساني، في البيت والشارع والمقهى والسوق ومكان العمل.. تتحدث عن الشاي والقهوة والموسيقى والأصوات والكتابة والقصائد والأيام وضراوة الأيام والشتاء والأشخاص المتصفين بالظرف والأصدقاء المخلصين الذين يعتنون ببعضهم: “ أميلُ أحيانًا للموسيقى الريفية وأحيانًا لا أميلُ لشيء! تعجبني الأصواتُ المبحوحةُ وأجدُ الأشخاصَ الذين يمتلكون غمازتين ظريفين جدًّا. أحبُّ الكتابة، وغالبًا ما أكتبُ أشياء سيئةً وأخرى جميلةً قليلًا أحب الشتاء والتسوق أيام التنزيلات والقصيدة الباردة. والعلاقات التي يعتني فيها الأصدقاء ببعضهم والأيام التي تشبه وجهي وأنا أكتب لك هذه الرسالة “. وفي هذا المقطع الفاتن أيضًا تتجلَّى التفاصيلُ المنزليةُ البسيطة: الأرائك والوسائد والألوان، وما يروقُ لها من غناءٍ وقصائد. كما تتجلَّى تفاصيلُ الحياةِ المعتادة المكتوبة بحبرِ شاعرةٍ حقيقيةٍ تصوغُ من المشهدِ العاديِّ فنًّا عاليًا قادرًا على الإدهاش، كما تجعلُ بوحَ العشقِ أو بوحَ الفراقِ [وهو بوحٌ يصوغُهُ معظمُنا بشكلٍ عابرٍ، وناشفٍ كالحطب] إبداعًا متألقًا يديرُ إليهِ الأعناقَ لفرطِ ما فيه من جِدَّةٍ، وحيويةٍ، ولدونةٍ تشبهُ لدونةَ الغصون: “ حسنًا.. لنقلْ إنَّ الأمرَ انتهى عند هذا الحد. أفضّلُ القهوةَ بثلاث ملاعق صغيرة، سكر ناعم، والماء مغلي جدًّا.. أحبُّ الأريكةَ الليلكيةَ والوسادةَ الخضراءَ الصغيرة. قصيدةَ درويش وصوتَ “ كارول سماحه “ حين كان طائرًا.. وأنْ أخبرَكَ وأنا في الرَّشفةِ الخامسةِ إنَّ القبلةَ بابُ الحب. وكما دَخلَ أوَّلَ مَرّةٍ، دَعْنَا نتبادلها للمرّةِ الأخيرةِ كي يخرجَ هذا المعتوه بسلام “. (4) نور أيضًا شاعرةٌ مَعْنِيّةٌ في نصوصها بالحديث عن المواعيد والذكرى، عن الدفءِ النادرِ، وعن همومِها الصغيرةِ، وأحزانِها العريضة، عن الشجنِ والدموع : “أنهي نهاري بدمعة، أبدأ نهاري بدمعة. الليلُ حبلُ غسيلٍ أجفّفُ عليه خيباتي “. أيضًا تتقنُ نور البواردي الحديثَ عن المكابدات اليومية، عن الطعناتِ السديدةِ التي لا تميت، عن السُّهْدِ الجارح، والنومِ العصيِّ الذي ينأى، هكذا: “ في أكثر الليالي لا أنااااام أفكر في الطلقة التي لا تميت.. الطلقة التي تخرجُ من سلاحٍ قاتلٍ، ولا تقتل!” عن الخساراتِ المُرّةِ والأحلامِ المطفأة، عن عذاباتِ التَّرْك، وخيباتِ التخلّي لأتفهِ الأسباب: “ بسبب اللقطة التي يظهرُ فيها جزءٌ من كتفي؛ انتهينا .. صدقيني ... خلافُنا كُلُّهُ كان بسبب كتف. تصوّري ذلك! “. هنا في هذه الومضةِ اليسيرةِ يكمنُ حزنُ المرأةِ الوافر، حزنُ الشاعرةِ العميق الذي يتركُ في القلبِ ندوبًا غائرةً، ندوبًا تُحْدِثُها سطوةُ رجلٍ تافهٍ، أو حبيبٍ نزق، هو على استعدادٍ كاملٍ لأنْ يهدرَ سعادةً كاملةً، أو يهدمَ علاقةً بهيجةً - حقيقيةً كانت أو متوهَمة - بسببِ صورةٍ يظهرُ فيها كتفُ تلك الحبيبة! لهذا ترى الشاعرة نور - ويا للمفارقة - أنَّ “ العالَمَ حالكٌ لأنَّ الذي أطفأ مصابيحَهُ نسيَ الليلةَ أن يضيئَها ، نسيَ آخر أرقامِ هاتفي، ونسيَ يضيئني أيضًا “ (5) هذه المرأةُ المسكونةُ بالقناعة في عالم الحب، الراضية باليسيرِ العَذْبِ الذي يجلبُ السعادة، حيث: “ قليلٌ من الحب يكفي.. من الكلمات، من الوعود الجميلة، من مقعدين.. من زهرتين وابتسامةِ رضا. من بحّةِ لومِكَ من موسيقى صوتِكَ من خلافٍ رقيقٍ من لمسةِ إصبع، من أغنيةِ عينيك. كثيرٌ من قليلِكَ يجلبُ لي السعادة “. أقول هذه المرأةُ القنوع، الباحثة عن السعادة في القليل الجميل - وإن كان ذلك القليلُ الجميلُ لومًا أو عتابًا أو خلافًا رقيقًا - تجد نفسها في آخر المطاف ضحيةً تسكنها العذاباتُ، المراراتُ، والطعناتُ الغادرة، إلى الحدِّ الذي تتمثل ذاتَها في شجرةٍ فقدَت الإحساسَ بالألم أو لذّة الألم فيما يشرئبُ عنقُها عاليًا و هي تهجسُ بالتمتّعِ بكرنفالاتِ الحياة: “ الشجرة التي كانت تمد رقبتها لتتلصص على كرنفالات المدينة، التي تعاني الاكتئاب وعمى الألوان كلما خدشَها عابرٌ بطرف إصبعه لعنَتِ الفأسَ الأولى التي سرقَتْ منها لذَّةَ هذا الألم! “. (6) في هذه النصوص - نصوص نور البواردي - يكمنُ حُبٌّ أصيلٌ، صادقٌ، حقيقيٌّ، وبسيطٌ، يلمسُ القلبَ..إنه يشبهُ حبَّ أهلِ القرى البسطاء الصادقين الذين لا يحسنون ارتداءَ الأقنعة، ولا يتقنون حِرْفَةَ الزيف، الواضحين كالبكاءِ، كالسعادةِ، كالمرَحِ البكر، و كالتماعةِ العشبِ تحت شمسِ الظهيرة : “ الظهيرةُ وكأس شاي. ويحدثُ أن يكونَ الوقتُ خفيفًا كذكرى جميلة. ويحدثُ أن تمرَّ في بالي. وأحبك .... كما أحبُّ الشايَ والذكرياتِ الجميلة “. وفي ومضةٍ أخرى مليئةٍ بالشعر والحب والجمال، نجد الشاعرةَ تؤكد هذه البساطةَ العميقةَ الأليفةَ في الحب، حين تبوحُ ببراءةٍ نفيسةٍ، من دون تلكؤ، أو فذلكةٍ، أو تخابثٍ: “ مُذْ كُنَّا صغيرَيْن، فكبرنا ومُعتمَيْن فأضاءنا الحب منذها وقد امتلأتُ بكلِّ خيباتِ القصائدِ الشاردة وقلبي الذي له رائحةُ يدِكَ يحبُّكَ بقوّةٍ كما كان “ (7) هذه الشاعرةُ المعنيّةُ بما هو جميلٌ في الحبِّ والحياة والكتابة لا توّدُ أن تكون أسيرةَ “ الآخر “، أو رهينةَ القيودِ، إنَّها تهجسُ بقضيةٍ كبرى هي “ الحريّة “، حرية الإنسان في هذا الوجودِ الصعب، حرية أن يكون ذاتًا مستقلّةً، محلّقةً، فاعلةً على مستوى القول والسلوك والكتابة والإبداع والعيش على هذا الكوكب المطعون بالمآسي والكوارث والخراب.. الملفت هنا أن الشاعرة نور على الرغم من كونها تتناولُ قضيةً مهمةً هنا إلا أنها لم تسقطْ في المباشرة، والخطابية، ولم تستجبْ لغوايةِ الشِّعَارِ الذي يفسدُ الشِّعْر، إذ اكتفت بالإشارة إلى سطوةِ القيدِ بذكاءٍ شديدٍ، عبر جملةٍ شعريةٍ جميلةٍ وفاتنةٍ جاءت في سياقِ مقطعٍ شعريٍّ ليست له صلةٌ بالشعارات والصراخ واللافتات العريضة، هكذا: “ أكتبُ قصيدةً صباحيّةً سريعة، وأنا أرتدي الجينز وحذائي الرياضي كثير الألوان. أكتبُ للوقتِ وأنا أعدُّ شطيرتي، أُغْرِقُ شَعْري بمستحضراتِ التجعيد وأمتدحُ رشاقةَ الريح، أساورُ يدي تدفعني للحديثِ عن الحرية “. (8) الملفتُ في نصوص نور أيضًا، براعتُها في خلْقِ لغةٍ جديدةٍ وصورٍ شعريةٍ طازجةٍ مدهشةٍ لم يسبقْ إليها أحد، وهنا تكمنُ فرادةُ هذه الشاعرةِ الشابةِ ذات التجربة القصيرة على مستوى الكتابة، مما يؤكد موهبتَها الفذّة وقدرتَها على الذهابِ بعيدًا في عالم الإبداع.. تلك الصورُ الطازجةُ المدهشةُ الطريّةُ كفجرٍ يستيقظ، تتجلّى هنا بجمالٍ أخّاذ: “ الليلُ حبلُ غسيلٍ أجفّفُ عليه خيباتي / أصواتُنا سلالُ وردٍ تنشرُ الأغنيات / الوقتُ خفيفٌ كذكرى جميلة / أغنيةُ عينيك / القصيدةُ الباردة “. (9) أيضًا ثمة ملمحٌ آخر في تجربة نور البواردي يتمثل في كونها لا تكتب نصوصًا شعريةً وحسب، إنها تبدعُ مشاهدَ سينمائيةً عاليةً في الكثير من نصوص هذين الديوانين، مشاهدَ حيّةً، دافئةً، مليئةً بالحركةِ ومآثر الذاكرةِ البصرية ومباهجها الغنية والآسرة: “ الفتاةُ التي تسيرُ بحقيبةٍ سوداء وحذاءٍ ملونٍ كلما مشَتْ يتسعُ لها الطريق. تدنو منها أشجارُ الحدائق، يقفُ فوق كتفها عصفورٌ أصفر صغير تُفْتَحُ لها نافذةٌ في السماء “. وثمة مشهدٌ آخر يؤكد ما ذهبتُ إليه بجلاءٍ تام، هكذا: “ أريدُ لمدينتي أنْ تخبئ شوارعَها التي لا تعرفها أريدُكَ حين تأتي تستدلُ سريعًا على بيتنا تعرف، لو طرقتَ مرتين سأفتحُ لك الباب، ولو طرقتَ ثلاثًا سأقفزُ لك من النافذة “. (10) أخيرًا أقول: شاعرةٌ مبدعةٌ كهذه أين هي من الساحة الثقافية في بلادِنا؟ لِمَ لا تُدْعَى إلى الأمسيات؟ ولِمَ لا تأخذ حصتها كاملةً من الحفاوةِ التي يحظى بها من هم أقل موهبةً وإبداعًا منها؟