في « اليوم الدولي للفن» ..

د. منى الحمود تقدم قراءة فلسفية عن تجربة البدر.

في ليلةٍ من ليالي التأمل الجمالي والفكر الثقافي، أقيمت على مسرح Syrup بالرياض أمسية استثنائية احتفاءً باليوم الدولي للفن، قدمت فيها الأكاديمية والباحثة الدكتورة منى علي الحمود، ورقة علمية تحت عنوان: “البدر.. رائد السريالية السعودية”، والتي جاءت بمثابة إعلان ثقافي متأمل يعيد تموضع الأمير بدر بن عبد المحسن داخل خارطة المدارس الفنية العالمية، متجاوزًا التصنيف التقليدي الذي يحصره في دائرة الشعر الشعبي. جاءت الورقة العلمية التي قدمتها الدكتورة الحمود لتقلب المألوف في تحليل النتاج الأدبي للبدر، عبر أطروحة فلسفية حملت مقاربة سريالية في قراءة أدبية جمالية، مفادها أن هذا الشاعر ليس مجرد كاتب قصيدة وجدانية، بل هو مشروع “فنان ميتافيزيقي” بامتياز، يمكن تصنيفه ضمن المدرسة السريالية التي ظهرت في أوروبا بداية القرن العشرين. واستعرضت الباحثة في مستهل ورقتها الخلفية التاريخية لإعلان اليوم الدولي للفن من قبل اليونسكو، مؤكدة على أن الفنون - ووفقًا للمنظمة - تُعد وسيلة حوار إنساني عالمي، وجسرًا للتمازج الثقافي والانفتاح والتسامح. ومن هذا المنطلق، اعتبرت الورقة أن مساءلة البُعد السريالي في نتاج البدر هو شكل من أشكال الإسهام المعرفي في الخطاب الفني العالمي. الفرضية النيتشوية في أعمال البدر استندت الدكتورة منى الحمود في بنيتها المفاهيمية إلى مقولات فلسفية جذرية من أهمها مقولة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه “نحن نمتلك الفن حتى لا نهلك من الحقيقة”. وبهذا المعنى، ربطت بين البنية التخيلية في شعر بدر بن عبد المحسن وبين مفاهيم اللاعقلانية، والتخيل، والمفارقة، والتجاوز، وهي المرتكزات الأساسية للفن السريالي. وأشارت إلى أن البدر يتعمد في شعره كسر الواقع المألوف، لا ليهرب منه، بل ليعيد تشكيله برمزية تتقاطع مع أعمال كبار السرياليين كـ ”أندريه بريتون” و”سلفادور دالي”، حيث تغدو اللغة لديه حلبة لصراع الأزمنة، وتصبح القصيدة فضاءً حلميًا يمزج الذاكرة والرمز والغموض في آنٍ واحد. القصيدة لوحة سردية من جانب آخر وصفت الباحثة قصائد البدر بأنها ليست مجرد نصوص، بل “لوحات سردية” تتقاطع فيها الصور الحسية والذهنية، وتتحول فيها المفردات إلى ضربات ريشة تشكيلية، مؤكدة أن الكثير من قصائده يمكن أن تُعرض كأعمال بصرية رمزية، وذلك لتكثيفها الصور والانفعالات والدلالات المتداخلة. كما قدمت الباحثة تحليلاً لشخصيات البدر الشعرية، خاصة رمزية المرأة، وثنائية الغياب والحضور، واستدعاء الطبيعة كعنصر أنثوي ناطق، لافتة إلى أن هذه الرموز تتجاوز الرومانسية إلى فضاء فكري معقد ينهل من الفلسفة الوجودية، والسريالية اللاواعية، والتمرد الجمالي على الصياغات النمطية. سريالية سعودية بهوية عالمية ومن أبرز ما طرحته الورقة هو مفهوم “السريالية السعودية” كتيار فني ممكن، يتجلى في تجربة البدر بوصفه أول من استطاع تحويل الشعر الشعبي إلى فضاء فلسفي، ميتافيزيقي، وحلمي، دون أن يفقد صوته المحلي أو مرجعياته الثقافية الأصيلة. وقدمت الباحثة ما يشبه “خريطة شعورية” لأشعار البدر، تبيّن فيها كيف أن الشاعر يقف عند التخوم بين العقل والخيال، والواقع والرمز، ليخلق عالماً يتيح للقارئ أن يعيش في منطقة تأملية “بين الحلم واليقظة”، تمامًا كما تفعل اللوحة السريالية.  إشادة فكرية ومطالبة بتوسيع البحث لاقى طرح الباحثة الدكتورة منى الحمود تفاعلاً كبيرًا من المثقفين الحاضرين، حيث طالب بعضهم بتحويل الورقة إلى دراسة مطبوعة ضمن إصدار أكاديمي، فيما رأى آخرون أن هذه المقاربة الجديدة تستحق أن تُدرّس في كليات الأدب والنقد الفني. وقد أثنت الشخصيات الثقافية الحاضرة على الجرأة البحثية التي أعادت قراءة “البدر” خارج القوالب الجاهزة، مقدّمةً إياه كظاهرة فنية مركبة ذات طابع عالمي، وكحركة فنية قائمة بذاتها، وليس شاعراً فقط. في ختام الأمسية، لم يكن الجمهور يصفق لمجرد محاضرة ألقيت، بل لتجربة فكرية فتحت أعينهم على زاوية جديدة لفهم الشعر السعودي الحديث، وتركت أثرًا فلسفيًا يتجاوز حدود النصوص إلى الأسئلة الكبرى: ما الفن؟ وما الجمال؟ وهل ثمة حاجة لأن نفهم شعراؤنا الكبار ضمن نظريات فنية عالمية؟ لقد أجابت الدكتورة منى الحمود عن هذه الأسئلة، لا بنظريات مجردة، بل بورقة علمية أضاءت لنا “البدر” كمدرسة قائمة بذاتها، وعين ترى العالم بحبر الشعر وبصيرة الفلسفة.