رسالة إلى نُزل «لو سانك كوديه» - باريس!
قال الروائي السيميائي جورج بيريك: “قليلة هي الأحداث التي على الأقل لا تترك أثراً”، وهو الذي ألف كتابه “فضائل الفضاءات”، مخترعاً عيناً تدور مثل الترس في فضاءات باريس، وتسوّى خريطة تأملات واسعة في المدينة، الشوارع، والأبنية، والتماثيل، والميادين. كل شيء يقتنصه النظر وتلتقطه الملاحظة. لكن مهلاً، أنا لست مثل بيريك في التركيز البصري المتلبث بموضوعه الفلسفي، لست مثله في مخاتلة الأشياء التي يراها جديرة برواية حكاياتها من وجهة نظره، أو رواية حكاياته هو عنها. لست مثله في تصوره عن المدينة على نحو يعطيها هبة في الزيادة أو النقصان، في التبسيط أو التعقيد. إنني مجرد زائر من خارج هذه الذهنية المليئة بخبرة العواصم في صناعة التحديق والتدقيق. مجرد زائر خفيف العبور والأثر. ليس عندي تعليقات جارحة، وليس لدي ملاحظات خشنة، ولا أطمع في أكثر من قبول سهل على شكل مبيت وطعام وبضعة شوارع لكل صباح. أرفض المجادلات التي تفضي إلى عبارة “على أي حال أنا أحترم رأيك”. إنها تعني بطريقة لبقة أن الكيل طفح ولا أريد مزيداً من الهراء. أما فيما يخصك يا نُزل (لو سانك كوديه) فإن لدي هذه الواقعة. في ربكة المساء خرجت من المطار بعد عناء شديد بسبب الزحام والبحث عن الحقيبة، وقد جلت يميناً وشمالاً بسبب التيهان المفاجئ لكوني، ولأول مرة، في مطار أوروبي، ولا أعلم أين أتجه، فالعلامات الإرشادية لها ملامح لغوية مخصصة لأوروبا. وموظفو المطار وكثرة القادمين لحظة الوصول لم يكونوا في صفي وأنا أخطو خطواتي الأولى والجاً بطن المطار الضخمة التي لم تبتلعني من قبل. إلى أين أتجه؟ اتبع المسار، قال لي أحد العرب العاملين في المطار، ثم أشار بيده ناحية ما ينبغي أن يكون اتجاهي. طيب، ثم ماذا؟ لم يرد، كان منشغلاً مع آخرين برطانة البلد. ومن خلال اتجاه واحد بطيء الحركة، وصلت إلى “كونتر” الجوازات. بقيت دقائق، أروي لنفسي قصة الخروج من المطار. قصة قصيرة جداً. تك.. وتخرج. ومن بعدها ستضحك في الشارع الذي يسلمك إلى أحشاء العاصمة. إلا أن هذه القصة لم تحدث إلا بعد دقائق ثقيلة. وقد سهلها منظم الطابور عليّ بعد أن نقلني إلى نافذة أخرى لتأشير الجواز، وذلك بعد أن وضع موظف الجوازات الأول لافتة “مغلق” ومضى خارج صومعته. إنه وقت تغيير النوبة، هذا ما تبين لي لاحقاً، انتهت نوبة عمل وبدأت أخرى، ومر التغيير بهدوء مع بعض الحوارات القصيرة بين الفريقين في أثناء التسليم والتسلم. ولم يحدث تأخير يذكر. غير أنني وجدت فُرجة تستحق المشاهدة، فقد وقفت في لحظة صغيرة بين دوامين حكوميين من السهل أن نطلق عليهما صفة تبديل نوبة. لم تكن هناك شروحات عن العمل في الفترة الماضية ولم تكن هناك أسئلة من الفريق الجديد، بل استلم الآتون دور الذاهبين بآلية ناعمة مثل تحية الصباح والمساء. أخيراً وضع الموظف الختم على الدفتر الأخضر الصغير الجميل الذي حملني بين غلافيه إلى فرنسا، ليكون الختم وسماً لا يزول من الصفحة. كالذكرى تماماً بعد أن تُروى فيما بعد. تبادلنا، أنا وموظف الجوازات، نظرات صامتة على طريقة الغرباء، وليس على طريقة أصدقاء السقالات الذين يتحدثون طوال النهار وهم يعملون. أو تقريباً، ليس على طريقة جورج بيريك في كتابه “فضائل الفضاءات” وهو يتأمل أحد المشاهد: (توجد أبقار في المروج، وكرّامون في الكروم، وحطابون في الغابات، وحزمات من المتسلقين في الجبال). لا، أبداً، لم أكن في مزاج يسمح لي بهذا التأمل. ولكني نظرت إلى موظف الجوازات على أنه مدعو مع بعض المجاملة والتهذيب إلى إنهاء إجراءات “تختيم” الجواز، ومن المؤكد أنه كان ينظر إلي على أنني لست الطرف المهم في أداء عمله، وإنما الطرف المهم هو دفتر الجواز وما يتضمن من معلومات تتطابق مع قوانين دخول البلاد دون عثرة من أي نوع. لم أكن أعرف اسمه، ولم أره من قبل، ولا أظن أنه جاء مرة واحدة إلى السعودية. لكنه “السيستم” وكفى، الإحاطة النابضة بكل المعلومات عن الزائر، لكن الزائر نفسه ليس مهماً في عين الموظف. لو كان كذلك ما هذا العبء بالنسبة إليه؟! وهل سيضيع وقته في عمل جانبي غير مهم مثل لحظة من فضلك، أريد أن أعرفك أكثر. يبدو أنك متعب ولا تريد الحديث عن نفسك، وعن اهتماماتك، وما الذي حملك على المجيء إلى فرنسا. وهذا على افتراض أن أرد: لا، أبداً، أنا أريد فقط إنهاء الإجراءات بسرعة لأذهب إلى وجهتي، من فضلك أنجز ما عليك ودعني أغادر. ماذا؟! كل هذه الأمور ما الذي يهم فيها؟ لذلك، لم يحدث شيء من هذا التبضع في الكلام والوجوه. لقد ناولني الجواز مختوماً بصيغة “يسمح له بدخول البلاد”. وهذه الصيغة من عندي، وقد كتبتها لاحقاً بعد أن فكرت فيها، لكن هذا هو ما حدث. دخلت البلاد بالفعل، رسمياً أنا في فرنسا، ومنذ دقائق فقط. تخيل أن تكون في بلاد أخرى منذ دقائق! دخلت، ولكن إلى سير العفش، هناك حقيبتي تبحث عن مستقر خارج مئات الحقائب والأغراض الكثيرة التي رافقتها في الرحلة. في إحدى المرات، كتبت مشهداً سردياً عن مئات الحقائب المسافرة في رحلة إلى اتجاه واحد، وكان يصحب كل حقيبة قلق الوصول، احتمال الضياع، أو خوف التلف، أو فاجعة الوصول المتأخر جداً بسبب عدم وصول صاحبها حياً في نفس الرحلة، مات في الطائرة لسبب ما. كانت الحقيبة الوحيدة التي فكرتُ كثيراً في مصيرها في تلك الكتابة. لكن الأمور، بالنسبة إلى سفري هذا، مبشرة. وصلت حياً، ومررت من خلال الزحام، والفرجة الغريبة ما تزال قائمة، عيون الفرجة المتفرسة في وجهي أكثر من أن تحصى، وبأوضح فضول ممكن في عين إنسان. بتعجب واندهاش وانبساط وقلق وضحك داخلي. برغبات غامضة في هذا الشخص ولا اكتراث عند ذاك، بلوحات إعلان من كل نوع. وفي شكل عام، هذا ما خيل إلي وأنا أمرق من بين الحشود. لكني لحظت في بعض الوجوه لهفة إلى معانقة صديق أو محبوب قادم، الوجوه والأيدي جاهزة لإشارة من القلب. هذا هو. لنتعانق. هناك وجوه أخرى تمارس شكلاً من أشكال المعاودة الرتيبة في تصفح القادمين بسبب العمل اليومي أو بأمر من موعد روتيني ما. لم أجد السائق في الموقع المضروب سلفاً داخل المطار، بحثت عنه وأنا أتواصل مع المنسقة النشطة أ. عهود اليامي، وكانت هي الطرف الآخر الوحيد على الهاتف الذي يتكلم لغتي ويتحدث لهجة بلادي في تلك اللحظات. وفيما أنا أبحث عبر التنسيق معها عن السائق، وجدته أمامي ينصبُّ طولُهُ الفارعُ في الزحام. قلت له ممازحاً، لماذا لم تقل بأنك بهذا الطول؟ كنت سأعرفك على الأصح! هل كان طويلاً بالفعل؟ّ لم أعد أتذكر. في الطريق إليك الشيخ حافظ، اسم السائق الأسمراني اللطيف، يغني في مسجل سيارته محمد عبده على العود، أغنية أسمعها لأول مرة، ليس في هذا البلد، فرنسا، وإنما في حياتي. بالرغم من أني أحب الاستماع إلى أغانيه منذ السادسة عشرة. وكان الشيخ حافظ يستمع إليها وقد عصف به طرب ظاهر. نسيت اسم الأغنية، لكني امتدحت الأداء والإيقاع وأنا أتحدث إلى الشيخ حافظ، فكاد يوقف السيارة ليشكرني لشدة اتفاقي معه في رأيه. ما الذي جعله يستمع في عاصمة أوروبية كبيرة إلى محمد عبده على العود؟ هل لأنه من عشاقه أم لأني من بلاد أبي نورة، فأسمعني الأغنية من قبيل المجاملة، أم لأن الفن الجميل عابر للجغرافيا، بغض النظر عن الفنان واسمه واسم بلاده؟ المهم أن تقود السيارة وكل أمورك طيبة يا شيخ حافظ. أما عن المطر، والسيارة تقطع الطريق وراء رتل طويل من السيارات، فـ “يكفي المطر والريح على قرميد السطح” كما قال الشاعر الفرنسي غي غوفّت، تعبيراً عن الوفرة في الخارج، في حين أن الداخل، أنا كمثال في هذه اللحظة، لم يألف هذا العنفوان المائي دون عواصف ورعود. قال في قصيدة بعنوان “الانتظار” ترجمة شريف بهلول في موقع “فسحة” الإليكتروني: (قالت، إن كنتَ أتيتَ لتبقى فلا تتكلّم. يكفي المطر والريح على قرميد السطح، يكفي الصمت الّذي كوّمته قطع الأثاث كالغبار، خلال قرونٍ بدونك. لا تتكلّم بعد. أصغ لما كان نصلًا مغروسًا في لحمي: كلّ خطوةٍ، ضحكةٍ من بعيدٍ، نباح الكلب، الباب الّذي يصطفق، وهذا القطار الّذي لا ينتهي مروره أبدًا فوق عظامي. اِبْقَ بلا كلمات: ليس ثمّة ما يُقال. دع المطر يرتدّ مطرًا والريح مدًّا وجزرًا تحت القرميد، دع الكلب يصرخ باسمه في الليل، والباب يصطفق، والمجهول يمضي إلى ذلك الموضع الباطل الّذي سأموت فيه. اِبْقَ إن كنتَ أتيتَ لتبقى.) وبالرغم من أن طقس القصيدة يختلف عما شعرت به في تلك اللحظة وأنا في الحافلة الصغيرة متجهاً إليك إلا أنني عندما عثرت عليها صدفة وقرأتها وجدت بيني وبينها ألفة رقيقة. وهذا ما أوحى به الشعور بيني وبين هذه البلاد التي آتيها لأول مرة. إنها، كما قرأت عنها، وكما سمعت عنها، مليئة بالمطر، بالعشب، بالبشر الذين لا ينظرون إليك وكأن الأمر يهمهم، مليئة بالألوان في وقت واحد، بالمساحات الطويلة المنظمة المهيأة للتريض واللقاءات والقراءة والتأمل، بل حتى للغفوة القصيرة قعوداً على الكراسي المبثوثة لمن رغب. إنها، وهي في تلك العطية الشاسعة من الجمال والحياة والفرص والرحابة المرنة، كأنها تقول لي: ورغم ذلك لن تبقى، ولكن سيبقى المطر والقرميد وبقية الأشياء التي لن تغادر. لكن مهلاً، دعني أدخل الباب إلى الاستقبال، هناك موظفة ترحب بي وعلى وجهها ودّ مهني أستطيع أن أسميه لطفاً مبرراً، في حين أن تصميمك الجيد بلا منازع يدخل في الوصف، تصميم لطيف وهادئ، ليس هناك ثرثرة فنية أو جمالية على أشياء الداخل، من انزلاق الباب للقادم حتى المصعد الصغير المركون في ممر ضيق يؤدي إلى الأدوار العلوية. لو كانت الأشياء التي فيك تفهمني بلغتي، لقلت: إن البساطة فيك ليس المهم أن تكون عندك تقليداً عامراً بزمنه وتاريخه، ولكنها بالنسبة لي لغز جمالي غير قابل للتفسير، مثل الصحراء في بلادي، كل شيء فيها يبدو موجوداً، ولكنه يحتاج إلى جهد وتيقظ خاص للوصول إليه. وهذا ما قلته في الندوة التي شاركتني فيها د. بدرية البشر، الكاتبة الروائية المعروفة، فقد شبهتُ الدخول في كتابة الرواية بصفتها عالماً مجهولاً في لحظة البدء، شبهتها بدخول الصحراء وعلى العابر أن يشق طريقه من خلال ما يجد وأن يكتشف فوراً وليس من خلال رؤية مسبقة عن الرحلة. ونقلت رأياً سمعته منذ زمن طويل عن ناقد غربي يقول عن الشروع الخام في كتابة الرواية: اكتشف الغابة. فالغابة لا تقترح الطريق من خلالها وإنما يجب أن تصنعه أنت. وكذلك الصحراء. كلماتي لك قليلة وقصيرة، أعرف ذلك، لكني أتمهل في بدء الكتابة عنك حتى أتذكرك جيداً، ربما غداً أو بعد عام يكون التذكر أنضج وتكون الصورة التي في بالي عنك بإطار قابل للطي والنشر. أما بقية الكلام عن المدينة، فقد أوحت إلي المناسبة بهذه التنهيدة المعجونة بالفوات و”النكوف” الخالي من الكسب: (تحتاج رجلٍ ما يصرّ الملايين يفلّها وان راح رايه يسدّه والعمر ما يحسب لمن قال بعدين العمر للي يوصل العلم حدّه البارحة فعلٍ مضى وانت ذا الحين بكره تعيش ايامك المستجدّه واللوحة اللي وسطها رسمة العين ما هي سوا والعين فـ اللي تودّه أهم شي ان كان في القلب غالين واهم شي ان كان في العمر مدّه تعيش بأفضل حال لو قيل مسكين لو كان حت العظم كثر المكدّه من يشتهي باريس يتحمل الدَّين ما دام ما له من مخابيه مَدّه باريس يعشقها من العالم اثنين مجنون فن وعولمي المودّه وانا غريب ولو زعل مني السين ودي برحلة ترجع اليوم جدّه)