اللافت في هذه الرواية أنها ذات رؤية فلسفية ، بدأت بكلمة (خروج) وانتهت بكلمة (دخول) وهذا مؤشر أولي ومدخل للتأويل منسجم مع عنوان الرواية (خارج العالم ) فالجنون خروج من عالم الوعي الذي يوحي بأنه زائف و مخادع ودخول إلى عالم الجنون وهو العالم الحقيقي المنشود لدى من استعصى عليهم الواقع ، وهذا يمثل العتبة الأولى للولوج إلى رؤية الكاتب ، أما العتبات الأخرى قتتمثل بكتابة العنوان من اليسار إلى اليمين ، و اللوحة التي رسمت على الغلاف وهي تنفيذ دقيق للّوحة التي وصّفها السارد وقدّمها بطل الرواية المفترض الدكتور (وديع الزاهي) لإدارة المستشفى في ليلة الاحتفاء به “ وهي عبارة عن لوحة رمزيّة تعكس رؤيته لعالم الجنون، يظهر في اللوحة وجه بلا ملامح ، نصف جمجمته مضيء ؛ أما النصف الآخر من الجمجمة فمنطفئ ، فيما يظهر في داخله مصباح كهربائيّ انقطع سلكه المعدنيّ ، وفي مقابل الوجه مرآة داخل بوتقتها صورة بعيدة غير بادية الملامح لشكل الكرة الأرضيّة ، في ركن اللوحة السفلي من جهة اليسار مكتوب بخط أسود خفيف و مائل ثلاثة حروف : و/ز/ص “ وأعتقد أن هذه الحروف اختصار لاسم بطل الرواية الطبيب (وديع زاهي)الذي تماهى مع أحد النزلاء (صعيقر) وهذا علامة دالة على الفكرة التي انطلق منها كاتب الرواي التي أصبحت محل تأويلات متعدّدة ذكر بعضها الراوي على لسان الأطباء الجدد في الفصل (21) ، يؤازرها مضمون الإهداء حيث الضّفة الأخرى من العالم (كما توضح صورة الغلاف) ينتظرون بوابة الحلم أن تفتح ، و ليس من شك أن بوابة الحلم تفتح على فضاء التأويل ، وهو ما يوضح فكرة الكاتب ابتداءً الذي تفسّره الملاحظة التي استهل بها الرواية و أشار فيها إلى أن الأسماء و الأحداث في الرواية هي وليدة مخيّلته و من قبيل ضرب المثل و على ضرب من التأوّل . تضم هذه الرواية أربعة و عشرين فصلاً ، وهي تمثل عدد ساعات اليوم كاملة (وحدة زمنية كونية متكاملة) الليل و النهار(الثنائية الزمنية : النور و الظلمة) في مقابل الثنائية التي تفصح عنها الرواية (العقلاء و المجانين) والعالمين : عالم المشفى (الخارج) مأوى المجانين و عالمهم الخاص وسط الغابة في عزلة مكانية و(الداخل) الذي يتسرّب منه الكثيرون ممن ضاقت بهم أحلامهم ، وهذه الثنائيات تمتد إلىآخر الرواية : حوارات متصلة منذ الفصل الأول ، فثمة مدرستان كل منهما يرى العلاج من زاويته الخاصة : حوار بين المجانين أنفسهم و بين العقلاء، كذلك الحواريّة الجدليّة : في الأمكنة و الأزمنة و الشخوص حول قطبين متقابلين وزمنين متراتبين (قبل الجنون و بعد الجنون) نماذج متعدّدة تقدمها الرواية (وهي نماذج مدروسة تمثل جوهر المعضلة الإنسانيّة المعاصرة من (ربيعان الصولي ) الذي يمارس هوايته في الصعود والهبوط على الجدارو(سحيمان) الذي كان يمارس هوايته في الرسم على اللوحات الإرشادية وزويبن الطرقي الرحالة الذي يمارس هوايته في الطواف بالأمكنة ، و شاهر الراكي العازف المتيّم ،وهم جميعا قد كفّوا عن ممارساتهم بعد رحيل وديع زاهي الطبيب الذي كان يرعاهم و يساير رغباتهم الذي لا ينفكّ الحوار حولها قائماً، فليس ثمة مرجعية ثابتة ، وقد بدأ ب(صعيقر) النموذج الأول ( المجنون الفيلسوف) أستاذ جامعي خرج من عالم العلم و الوجاهة إلى عالم المشفى الضيق صاحب نظرية (الصداقات تخلقها المهن و تصقلها المحن) خرج من مأزق الداخل المحدود إلى خارجه ليتخلص من أزمته ، والراوي يقوم بالتعليق و التفسير و التحليل، وهو ما لا ينسجم مع بنية الرواية التقليدية التي تتّكيء على بنية السرد ، و لكن هذا الفن يتسع للثقافة بكافة أشكالها ويجمع البينيّات على صعيد واضح ، وخصوصاً فيما يتعلق بالطب النفسي و الفلسفة ، فهذا العمل الروائي يذكّرنا ب( العصفورية) رواية غازي القصيبي و بطلها (البروفيسور) التي تدور أحداثها في مشفى المجانين أيضا استفرغ ما بداخل عالمه الخاص حاشدا مجموعة هائلة من الوقائع و المعلومات ،وهو ما دفع الدكتور الغذامي إلى وصف المعلومة بأنها بطل الرواية ، وكذلك رواية (فصام) للدكتور إبراهيم خضير وبطلها المصاب بهذا المرض و أحداثها تدور في مشفى الأمراض النفسيّة ، وهذه الرواية تتميّز بأنها ذات رؤية فلسفيّة تقدمها بوضوح عبر الحوار و الوقائع و النماذج البشرية التي يرسمهلا بعناية ، فمن (صعيقر) إلذي يوصف بأنه شيخ المجانين (منظومة من القيم الفارة من المجتمع) جاءت إلى هنا لتتخلّق من جديد و تعيد ترتيب القيم وفق رؤية مغايرة لتلك الرؤية التي اصطلح عليها العالم الخارجي في (زمن الآلة و المصنع ) منحى تحليلي قائم على التنظير و التعقيب مما يجعل حضور الراوي العليم حاضراً بكثافة نائباً عن المؤلف ، فالراوي هو الأنا الثانية للكاتب ، وقد أناب عنه بطل الرواية (الدكتور وديع الزاهي رئيس قسم العنابر ) الذي تماهى مع صعيقر وكأنّ البطولة في الرواية أصبحت موزعة بين ثنائية العقل و الجنون الذين أصبحا على توافق تام في شخصه ، فأبرما معاهدة التصالح بين الداخل و الخارج عبر لائحة جديدة متعدّدة البنود ترعى هذا التواءم بين العالمين . في فصل تال يقدم نموذجاً آخر من النخب المثقّفة صاحب رؤية (أستاذ جامعي ) أيضا حاول أن يخرج عن المألوف فزجّ به إلى المشفى و أسند إليه الراوي مهمة رمزية قابلة للتأويل : تلك الخطوط التي يضعها كلما حاول أن يصعد السورأي محاولة التخطي لعالمه ، إنه (ربيعان ) فوصوله إلى المشفى ومحاولاته المتكرّرة للصعود رافقها تحوّل آخر فيما يتعلق بعالمه؛ إذ ازداد حجماً وسعةً و ترتيباً وتنامى دوره في موازاة مفترضة لما يحدث في داخل العالم الحقيقي الذي بدأ يضخّ الكثير من ساكنيه إلى هامشه، ممثلا ًفي المشفى لكنه الآن(الزمن الراهن الذي تزداد الأزمة فيه تعقيداً فيبدو مبنىً فخماً؛ إذ بدأ يتوسّع على حساب عالم الداخل ، الأمر الذي دفع مديره (لطفي الحوّاف ) إلى المطالبة بفتح فروع له. تقدم الرواية شخصية (سحيمان) مدرس اللغة العربية الذي أثخن اللوحات الإرشادية بالرسومات وتقمص شخصية سيبويه واستجابت إدارة المشفى لرغباته باستحداث لوحات جديدة وهمية ، والسارد يناقش هذا التصرّف محلّلا له من زاوية علاجية (فالمرضي يعيشون في بيئة تساعدهم على التفكير و إعادة فلترة العقل) وهذا يدل على موقف الكاتب ورؤيته. و(زوبين) الذي يتخيّل - فيما يشبه الحلم - أنه مقلع في رحلاته حول العالم فيُحال إلى الدكتور وديع بعد فشل الطاقم الطبي في مساعدته على الخروج من طقوسه الوهمية فيسايره مقلّدا أزيز الطائرة مقنعاً له بضرورة الهبوط الاضطراري ، وهنا يتواءم عالم الصحو و الجنون . وفي منعطف مهم يخرج الرواية عن مسارها في تقديم نماذج من تصرفات المرضى الذين يدخلون إلى المشفى ويتعامل معهم زاهي بطريقته التي تثير دهشة الزملاء ، يأتي الوفد الطبي العالمي لزيارة المشفى ويقلب قناعات المدير المتمسك بالبروتوكولات التقليدية مؤّمنا على تصرفات الدكتور وديع في تعامله مع النزلاء ، فبدا رئيس الوفد الدكتور (شاندر ) وكأنه المعيار الذي أثبت صحة تصرف الدكتور زاهي ، حين زار سرداب( معضاد النمنم) الذي استثمر أسطورته في سياق المنحى العلاجي للنزلاء ، وكشف عن المهندس الزراعي الذي رتّب حديقة المشفى طبقا لرؤية زاهي . وتمضي الرواية في تقديم نماذج المرضى الذين خرجوا من عالمهم الى هذا العالم الهامشي (شاهر الراكي) الملقب بالباشق و هو المحب المأزوم الذي فرّ إلى خارج العالم من متنه إلى إلى هامشه ، والنموذج الآخر ذلك الذي اضطر إلى مغادرة الشعر إلى عالمه الخاص (وهم نخب مختارة بعناية من الكاتب ممن عجزوا عن التصالح مع الداخل فخرجوا منه ، لقد كانت الملاحظة الرئيسة التي لاحظها شاندر انشغال النزلاء بأنفسهم دون النظر إلى غيرهم . لعبة (لغليون) و الأماكن المكشوفة و البعيدة، ففي الفصل (12)يطرح الكاتب أفكار الدكتور زاهي في محاضرته حول (مسابقة الغليون) مشيراً إلى انقطاع المرضى عن الإحساس بالزمان و المكان ، و أن العلاج يكمن في إعادتهم إلى هذه الحظيرة وجعل التفكير متصلا دون فجوات . عقد المؤلف فصلا ًيستعرض فيه أفكار الأطباء و تصوّراتهم للأزمة التي يعيشها العالم وفق تحليلات مختلفة ، فقضية الغليون تصبح محوراً للحديث ، فضلاً عن مسألة (الإعراب) لدى (سحيمان) الذي يتولى أمره الطبيب (زاهر الربيع) يليه ما يتصل بالنزيل( ربيعان الصويلي) الذي يشرف عليه الطبيب (رمزي الدّف) ثم (زيادالريفي) المشرف على (زويبن) ثم الدكتورسامر المشرف على (شاهر الراكي) المحب المتيم. يناقش الكاتب موضوع الأحلام فيما يتعلق بالمجانين من خلال محاضرة للدكتور زاهي فيرى أن ما يفعله المجانين هو الحلم يعيشونه في اليقظة بينما العقلاء يعيشون أحلامهم في النوم ،و يستعرض أفعال النزلاء و ممارستهم أحلامهم في الواقع الذي يعيشونهم خارج العالم الحقيقي . حين فرغ اللكاتب من فصوله التي عالج فيها نماذجه التي شكّلها وفق رؤيته ، غادر عالمهم الهامشي ليجوس خلال عالم الداخل متقصّيا آثار بعض من غادروا هذا العالم إلى المشفى فوجد آثارهم باقية تسم هذا العالم وتتقصّى ملامحه . خرجت الرواية عن مألوف السرد واحتشدت بالآراء و الرؤى، وحقّقت سمة جوهرية في (الرواية البولوفينية) حيث تعددت الأصوات والرؤى و التأويلات وتوحدت في الإقرار بوجود المعضلة التي يعاني منها الإنسان المعاصر وطرق خلاصه وتنوع مشاربه و أزماته فطغى الخطاب على التاريخ و الفكر على السرد. هذه قراءة أولية لا تعدو أن تكون استكشافاص للبنية السطحية أما البنية العميقة فتستلزم تحليلا أبعد غوراً .