
سنة وخمسة أشهر ميلادية منذ وفاة الشاعر محمد زايد الألمعي ( رحمه الله ) كانت كفيلة بالنسيان لو لم يكن شاعرًا كبيرًا،واسمًا ثقافيًا له حضوره الشعري والثقافي في الأوساط الأدبيّة والثقافية المحليّة والعربيّة ! سنة وخمسة أشهر لم أجد في تتبع ما كُتب ونُشر عن محمد زايد الألمعي ما يُشبع هذه الذكرى،ويُعيد إلينا صوته الشعريّ المختلف،ولولا حضور ما كتب محمد زايد الألمعي اسمًا وإبداعًا اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي بقصيدة أو بيت أو رأي يُذكّر به صديقٌ هنا أو مُعجبٌ هناك لما بقي لهذا الاسم ذكر، ولهذا الإبداع حضور في زمن كثر فيه الشعراء وقلّ الشعر ! انتظار المحبين مع أنّ حسابات محمد زايد الألمعي في شبكات التواصل الاجتماعي ما زالت تعمل،وما كتبه فيها ونشره من قصائد وآراء يلفت إليها الانتباه والأنظار محبون إلاّ أنّ محبيه ما زالوا ينتظرون أعماله الشعريّة مطبوعة في كتاب أو أكثر! المتابع والمتتبع لما كتبه الألمعي أو كُتِب عنه يلحظ أنّ القصائد المنشورة في العدد الثاني عشر من مجلة « غيمان « ( العدد المنشور في شتاء 2010 م متاح على الشبكة العنكبوتية بصيغة الـ pdf لمن أراد الاطلاع عليه ) تحت ما وصف وقتها بديوان العدد،واختير لهذا الديوان عنوان « المغنّي الخائف « ولا أعلم هل كان محمد نفسه صاحب الاختيار لهذا العنوان أم كانت الكلمة الفصل في هذا الاختيار للمجلة والقائمين عليها ؟! مهما يكن أمر اختيار هذا العنوان فإنّ القصيدة لوحدها ديوان،والديوان ( كما أعلم ) هو الثالث المنشور بعد مختارات نادي أبها الأدبي « قصائد من الجبل « مع شعراء آخرين،وديوان صوتي عن نادي حائل الأدبي ! هذه القصيدة « المغنّي الخائف « كتبها محمد زايد الألمعي في صديقه الشاعر إبراهيم طالع الألمعي وأهداها إليه ( ذكر هذا محمد زايد الألمعي في أمسيته التي أحياها في المكتبة العامة في أبها عام 2008م ونشرت عنها تغطية في صحيفة الرياض العدد 14624) إلاّ أنّ العودة إلى هذه القصيدة اليوم،وقراءتها بتأمل، ومحاولة إنزالها على الواقع الذي يعلمه القريبون من محمد ، والذين قرؤوا شعره،والتصقوا بتجربته ومنهم الشاعر إبراهيم طالع الألمعي لا أظنهم يفصلون هذه القصيدة عن محمد زايد الألمعي نفسه وإن كان المخاطب فيها إبراهيم طالع ! العنوان: لا شكّ أنّ العتبة الأولى للقصيدة هو عنوانها،وعنوان القصيدة هنا « المغنّي الخائف « مما يلفت الانتباه ، ويستوقف المتأمل ، فالغناء هنا يتناقض مع الخوف ، لأنّ الغناء احتفاء ، فيما الخوف صمت وانكفاء ، والعنوان هنا أراد أن يستوقفنا للحظات أمام هذه العتبة ، وانتظار ما بعد الدخول إلى عوالم هذا النصّ الشعريّ ، وإلى بنية النصّ النفسية للشخصية المتصدّرة في القصيدة ! الموضوع والرمزية: القصيدة في بناء الشاعر تبدأ بالمشهديّة، مشهديّة العبور صدفة،حاملًا ثقلاً نفسيًا، وخفّة ظاهريّة « حاملًا أثقل الهوى وأخفّه «لقرويّ يتجول في « المدينة» وسواءً أكانت هذه المدينة واقعًا أو رمزًا لسلطة أو ثقافة أو لمجتمع فالمشترك بينهما الأمان المفقود، والدليل على ذلك أنّ الغناء هنا لإخفاء الخوف ، والكتابة للمحو ،وإخفاء ما استشفّه عن الناس ! كما أنّ الشكّ هنا يطال الصحب والطيف ، وكلّ هذه الصور التي تمتلئ بها القصيدة لا يمكن أن تكون وصفًا لشخص، بل هي تعبير عن حالة يتلبسها الشاعر ذاته ويتلبسها آخرون معه، تكشفها أو تفصح عنها ذات شاعر منقسمة بين الرغبة والرهبة ! اللغة والصور: لغة الألمعي هنا شعرية مكثفة،مائلة إلى الرمزية،حيث تتوالد الصور من بعضها،وتغيب المباشرة لصالح الإيحاء: «فرأى الأرض غابة من نحاس ورأى طلقة تخاتل نطفه!» فصورة « غابة من نحاس « هنا تشعرنا بالجفاف والجمود والرهبة، و» طلقة تخاتل نطفه » تحيلنا للموت وبداية الحياة ! الإيقاع والموسيقى: اعتماد الشاعر في كتابة هذا النصّ الشعري / الديوان على شعر التفعيلة يؤكّد على براعة الألمعي في كتابة هذه القصيدة ، لما في التفعيلة من حريّة في الإيقاع،وانسياب في اللغة،وفي القصيدة ما يثبت هذا وأكثر . فالقارئ لا يقف على ترهّل في القصيدة،ولا تكرار مخلّ ، ولا صورة نافرة،فكلمة « رأى » التي وردت في النصّ على سبيل المثل أكثر من ثلاث مرات ليست خللا في النصّ كما يُظنّ،بل هي تعزيز لبنية النصّ ، والدراما الداخليّة للقصيدة ! النهاية والعودة: النهاية في هذه القصيد حزينة،لأنّ المغنّي القروي قرّر العودة إلى قريته،فكانت المفاجأة : « فإذا قرية عقيم وحقل ودماء تنزّ من كلّ قطفه» . فلا المدينة احتضنته،ولا القرية أنقذته! الخاتمة: «المغني الخائف» قصيدة وإن كتبها محمد زايد الألمعي في صديقه إبراهيم طالع الألمعي إلاّ أنّها لا تنفصل عن محمد ذاته،ويمكن لهذا النصّ الشعري أن يقدّم لنا محمد الإنسان، المغنّي الخائف ، أما الشاعر فقد كان بهذه القصيدة وبغيرها من قصائده العديدة التي نشرت في هذا الديوان ومالم ينشر صوتًا شعريًا مختلفًا في لغته وصورته وحتى في حضوره وغيابه ! ------- المغنّي الخائف ! شعر . محمد زايد الألمعي ...... مرةً مرّ بالمدينةِ صدفة حاملًا أثقل الهوى وأخفّه قَرَويّ رأى القبائلَ تُلقي تحته شارعاً وترفعُ شُرفة *** جاسَ في تيهه الفراغ وغنى كي يداجي عن شارعِ الأمن خوفه! كتب الناسَ خفية ومحاهم ثم أخفى عن خوفهم ما استشفه فرأى الأرض غابة من نحاس ورأى طلقة تخاتل نطفة! ورأى ما رأى بأحداق صحب أجّجوا شكه فكذّبَ طيفه فانثنى قافلاً لسدرته الأم منيخاً بين القبائل حرفه فإذا قرية عقيم وحقل ودماء تنزّ من كلّ قطفة. *** مدنٌ لا تراه إلاّ غريباً وقرى لا تريده غير طرفة هكذا يذرعُ البلادَ كطيفٍ يختفي فجأةً، ويأتي كصدفة !