قراءة في (أوراق البحر والقمر) للشاعر محمد الحفظي..

جراح ناغرة ولحظات نادرة، وعشقٌ تائه في أضابير الذكريات.

في قصائد هذا الديوان امتطاء لغارب الكلمة التي تطوّح بصاحبها إلى حيث الأمداء واسعةً بلا حدود، تستوقفها محطّات قارّة في سحيق الأغوار و في أقبية الذات، وتلافيف الوعي التي طوتها أعاصير الزمن، وقرّحتها جفون الأيام ،أسفارٌ تمضي في حِقبٍ تراكمت ،وطرائق تعرّجت و التَوّت؛ ولكنها ظلت قابعةً تستدرجها الكلمات الشاعرة فتسفر عن مكنوناتِ باقياتٍ رست ورسخت ، وترتحل في شِعابٍ تاه فيها الوجدان ، ثنائيّة ملتحمة بنبضات القلب وخطرات الوجد ، جراح ناغرة ولحظات نادرة ، ووجوه نَضِرة ومعاناة ومتاهاتٌ و لحظات تتخاطر بين وميض بارق يحفه الجمال و الجلال، وعشقٌ تائه في أضابير الذكريات وخلود في وهاد القلب وتلافيف الروح ، مفارقات تستقرئها وتستدنيها في لحظات تلتهب فيها جمرات الشوق في محطة فاصلة من التيه في شعاب العمر، تحتدم فيها حرائق الحنين ، تلوذ بها ذات شاعرة وقفت تستشرف ذهاباً آبت به خواطر انفلتت من عقال الحاضر لتجوب في أزقة الماضي، وتتقرّى ملامحه بوجدان ملتهب وشعور موّار ، وتتلبّسها شعريّة اللحظة فتتمثّلها كواشف تستجلى شاردات الذكرى وتطارد ماضيات الوقائع وهاربات الأحلام ، وتميط الحُجب وتستحثُّ المكنونات وتستطلع ماوراء الغياب ، وما أخفاه ضباب السنين وتناجي الرّوح وتلملم أشتات الذات التي تناثرت أشلاؤها على رصيف العمر ، تراتيلُ عاشقٍ وترانيم وامقٍ وأسئلةٌ تستطلع الأزمان والأكوان والأماكن و الأوقات ، حضور تكاثف مع تنامي الوجد ، وخطاب للآخر الملتبس بالذات المتمفصِل بين شِقّي الحضور و الغياب : إليك آب حديث الظن مقتربا وعنك ناء ضنين السر ينتقب وأنت أنت على الأعراق ملتفت وكنت منك بلا كفين تنسكب وبعد كنت رحالا نلت واسعها لك الجراح تغنيها فتقترب هل يمكن أن أعبث بجمال البلبل فأُشرِّحَه وأفصل روحه عن جسده وأتجاهلها منشغلاً بالأشلاء، أُعمل فيها مدية الجرّاح فأصادر نبضها و أتجاهل وهج الحياة فيها لأقول فيها ما يقتضيه النقد ،وقد لا يسعفني الفكر إن هذه القصيدة تنطق عن هوى الذات ،وتستدني ما فات وتتوق إلى ماضي الذكريات، و تتوقف عند ما يستهويها من المحطات ، لا تُفصح بالبيان رغم كثافة التعبير وتحلّق مع الخيال فتصطحب قارئها إلى عوالمها الخاصة ، تجعله في حيْرة ؛ولكنها تُدهِشُه بجمال التصوير وفائق التعبير ، وتجعله يتسمر على أبواب البهجة الغامرة، ولا يكاد يعي أسرار الذات الشاعرة أو يستطلع خفاياها و خباياها ، يمتطي صهوة البسيط من بحار الشعر تتقاطع فيه حقول الدلالة بين الزمن وظواهره الكونيّة والطبيعيّة والعدديّة وماضيه و حاضره ، والحزن والآلام وحراكها، والأيام وتقلّباتها والجوارح والملامح والكتابة والورود والظنون ، ولغة تتساوق مع وجيب القلب وذبذبات الوعي وأساليب تتناوب فيها صرامة التقرير و وداعة البوح ، وهدأة الوصف و التصوير، وتكرار المحطة الزمنيّة الفاصلة (خمسون) والسرد والنداء والنفي و الإثبات و التأمّل و التدبّر و الانفعال و الابتهال ، والادّعاء و العرض و الشرط بألوانه المختلفة ، والأمر و النهي وخطاب الآخر تكراراً يحمل صرامة التوكيد وصراحة التبكيت . وليست العبرة بهذا التنوع في الأساليب ؛ ولكن بموقع كلٍّ منها و موجباته و دلالاته ، فالاستهلال بالأمر (أورق) وما تلاه من مفهوم الدعوة إلى استنبات الورق بعد أن ذوى وجاء خريف العمر إحياء مجازيا لما مضى وما حفّ بهما من استدعاءات و مارافقها من مشاعر ، واستثمار الإيقاع الصوتي لاسم الفعل (أوّاه) و أسلوب الشرط الذي يفيد الامتناع لوجود، وتعدّد الجمل الحالية بأفعالها المضارعة (تطوي الحروف و تستجدي و تنتحب) و الثنائيّات الموحية بالماضي و الحاضر ، والنداء الذي يليه الاستفهام استحضار و تساؤل ما ينبيء عن القلق و الحيرة والاضطراب (يا كل من جاء.... هل تصفو محارته) وتكرار العدد (خمسون) حدثَاً معنويّاً لفعلين لازمين (تنأى حقيقةً ،وتعود خيالاً) وأسلوب القسم والعرض وتكرار النّفي و الإثبات تعبيء عما يختلج في القلب ، و ما يضطرب في الوجدان و ما يساور النفس وتكرار جملة (دع المكان) انفلاتاً من قيود الحضور و انطلاقاً إلى فضاء الذكريات وتأكيد حضور الآخر (الذات المنفلتة من أنا الخطاب :أنت أنت) وبعد .. كنت رحّالا نلت واسعها لك الجراح,, تغنّيها فتقترب ويمضي على نهج الاستشراف و الاستقراء و الاستنبات موغلاً في الارتحال إلى المناجاة والمراجعة و الاستذكار في نبرة غنائيّة استدراكيّة قي قصيدته (سماء سابعة) علوّا في مدارج النّفس و التماساً لارتقاء الروح وقراءة مُمعنة في استنطاقها منكفئاً إلى أقبية الداخل و قارّات الخيال في قصيدته (سماء سابعة) محلّقا في سامق الرؤى وعوالم الارتقاء ، على وقع الزمن الذي بدا و كأنه يقضّ مضاجع الذكريات ويستجلى طبقات الوعي، سادراَ في تداعيات تتمازج حقيقةً وخيالا، تصويراً و تقريراً سرداً و وتوصيفاً في حَفرٍ مُستمرٍّ في دهاليز الوعي وشعاب الروح ، وإشراقات صوفيّة يلا تخوم ، تقبع في الزوايا في سلسلة من الصور ،وفي حراك على أبواب الوعي ومطلقات التجلّي ؛ فنحن في القصيدة أمام سلسلة من جداريات تتلمّسها يد الفنان حفراً على حائط الزمن وأسقف الرؤى، مستثمراً عبارة تستشيم ضحى الغد (سيأتي الفجر) عبارة يفتتح بها مقاطع من القصيدة مُكدّساً مُطلقات من أسماء المعاني المنفلتة من قيود الزمن الذي يتبدّى في مطالعها حاملاً الأمل ناهضاً من بين الدموع و الرّكام؛ مُستغرقاً في استشامة الغيب ، تتمازج فيها خيالات تتراءى للشاعر في سلسلة من الصور التي تتوالد في حراك ٍ مشهديٍّ كنائيٍّ رمزيٍّ تمثيليّ: “وجوه أثقلتها الروح/وهي تغادر الأسحار/ تستجلي مرايا العمر/ والأبواب تغفو بين صدعيها/ جذوع أغرقت في الأوب/ لاتدري لمن تشدو/ولا تدري بأن الماء محفور يشقيها/ إذا ولّت كشلّال” تشكيلٌ جماليٌّ يستحوذ عليه صحو العقل وانسجام الفكر وسطوة التنظيم، تنتشله من سديم الرؤى إلى حقائق التأمّل واستدراج تجلياته تتتعثّر في انسيابه سلسلة المجردات التي تفتح كوى التبصّر وتغلق منافذ الوجد ؛ فالمصادر قماقم تحشر انثيالات الرؤى و تصفّدها بأغلال الفكر وسيطرة الوعي ،ورصد الحركة وإيقاعها في شباك الاستقصاء والاستدراك والارتهان إلى ياء المتكلم واستنادها إلى خيالاته وتجلياته التي تستشرف الآفاق و تستبين الآتي ، يا لهذه الذات التي تحتكر القادم تنبّؤاً بماهو آتٍ وقادم . “غدا سأعود طوّافاً على جرح قد اكتملا/ أقدس فيه ما يبقى جليّاً أينما رحلا/ سأتلو في سماواتي سمو الرحلة الأولى” قصيدتان تختزلان نهج الشاعر في تشكيل رؤياه وبناء جمالياته :الأولى تناظريّة الشكل ،خليليّة الوزن تناظرية الشكل والثانية منعتقة من قيود الخليل طليقة في فضاء التشكيل. وإذا كانت هاتان القصيدتان تنشران أجنحة التأمّل و الاستذكار والاستبصار فإن ثمة قصائد أخرى تتنازعها المناسبات و الوقائع التي تستفزّ الشاعرية و تستنهض الوعي قي غنائيّة شجيّة و تأملات ذكيّة تستحضر الماضي وتستثمر مخزون الوجدان ، كما في قصيدته (أصبحت قامتك الفريدة يا أبي) تذكرني بقصيدة محمود درويش (أنا يوسف يا أبي) مع اختلاف الموضوع ، ولكن في حميميّة الخطاب و مصداقية الإحساس ؛ فالشاعر يتمثّل أباه ويبثّه لواعجه وهمومه وشكواه ويبوح له بأسراره و نجواه، وفي ياء الرّوي امتداد لأنفاس الصدق ولواعج الفؤاد ، ويتقمّص صوته و بلواه ويحمل أشتات ذكرياته ونجواه، في تداعٍ حميم و تراسلٍ نظيم، وتعداد للخصال وما يفضي إليه المآل يترسّم خطاه ، ويمضي إليه فلا يدركه ولا يلقاه ،في عبارات تكتظُّ بالألم،وصور تحتشد بالشجن ، يستقصي لواعج الفراق ،ويعاني من آلام الرحيل وقسوة الغياب ، ويتلمّس مظاهر الحزن و ومواقع الأسى ويشخّص الوفاء في السجود و الدعاء، في نغمٍ حزين وتصوير موحٍ وتجسيد لملامح الحزن و البكاء ، لا يصطنع مظاهر الفقد وإنما يُبحر في غياهب الضياع بعد فقد الجذور والسعي بين القبور ، يصف حاله بعد الرحيل في مشهد تتقاطع فيه الملامح الظاهرة والمشاعر القاهرة ، يشكو ضعفه وقلة حيلته في براءة الأطفال وصفاء النفس وغضاضة الإهاب : “أصبحت شوقا يا أبي / و الشوق يهزم أضلعي / وينوء بي بين القصائد و الظلام / يدور بي حتى تجف سنابلي/ ما زلت غضا يا أبي/ ما زال كفي عاثرا/ أخشى عليه من السلام” غنائيّة شجيّة ما بين تأبين صادق وحزن فائق وتمثل لائق ،وخطاب للغائب في حضور القلب وشرود اللب وطغيان الحزن ، بثّ للهم وتعبير عن الشجن وتصوير على نهج خلّاق يجمع ما بين المحسوسات التي تجسد الحضور و تمعن في الحزن على الغياب، صمت مُلجم ودعاء خاشع واستذكار وتمثل واستحضار . تقابلٌ وتناظرٌ وتداعياتٌ موحشات وغياباتٌ قاهرات ، تَحرّرٌ من بحر الخليل وانسيابٌ مع التفاعيل وتخفّفٌ من أعباء الوزن وانفتاح عل مُشرَعات الأنغام . و تمتد حبال الشجن لتتجاوز خصوصية الألم إلى عمومية الشجن في قصيدته (رحيل فاجع) كانت بعد حادثة الطائرة المروحيّة في سماء (السودة ) التي راح ضحيتها مسؤولون وأفراد كما جاءفي الديوان ؛ فمن خصوصية الشعور إلى عمومية الحزن ، يبدؤها بألفاظ المواساة السائدة في العزاء عبّرمن خلالها عن عميق ما تركه الحادث من أثرٍ يغلب عليه تصوير الحال على نحو فيه قدرٌ من التقرير ، و الاتكاء على تنويع الأساليب و الصور العابرة ذات السمة البيانيّة المختزلة،غير أن النفس الشعري بدا ملحميّاً طويل المدى. وبودي لو اتسع المجال لمزيد من التحليل لبقية القصائد في الديوان؛ ولكن لعل ما أشرت إليه في النماذج السابقة فيه بعض ما تميزت به قصائد الشاعر.