التمور السعودية.. لتكن قوة ناعمة.

في أرضٍ كانت ولا تزال مهدًا للأنبياء والحضارات، تقف النخلة شامخة في صحراء المملكة العربية السعودية، شاهدة على العطاء، ومعلنة عن منتجٍ وطني يمتلك كل مؤهلات العالمية: إنه التمر السعودي. تحتضن المملكة أكثر من (23) مليون نخلة تنتج ما يزيد عن مليون طن سنويًا من التمور. ورغم هذه الوفرة والجودة العالية والدعم الحكومي الكبير، فإن صادرات المملكة لا تتجاوز (300) ألف طن في أفضل الأحوال. ما يطرح تساؤلًا استراتيجيًا بالغ الأهمية: كيف يمكن تحويل التمور من منتج غذائي إلى رمز وطني، وإحدى أدوات القوة الناعمة للمملكة؟ في عالمنا اليوم، لم تعد القوة الناعمة مقتصرة على الإنتاج الإعلامي أو الخطاب الدبلوماسي، فحسب، بل باتت تشمل رموزًا ثقافية ومنتجات ترتبط بهوية الأمة وروحها. والتمور السعودية، بما تحمله من رمزية دينية، وتاريخ زراعي، وجودة متميزة، تُعد مرشحًا مثاليًا لحمل اسم المملكة إلى موائد العالم، لا كمجرد طعام، بل كـ “سفير ناعم” يروي قصة وطن. أدت وزارة البيئة والمياه والزراعة دورًا بارزًا في دعم زراعة النخيل، عبر برامج الإرشاد والدعم الفني. كما أسهم صندوق التنمية الزراعية في تمويل المشاريع الصناعية، خاصة الصناعات التحويلية التي أنتجت مشتقات مميزة، من معجون التمر، إلى الخل والدبس، والكحول الطبي. أما المركز الوطني للنخيل والتمور، فقد تبنى جهدًا كبيرا في مجال تنسيق الجهود تحت مظلة موحدة، من خلال: تطوير سلاسل الإمداد، ورفع معايير الجودة والتصدير، ودعم الترويج الدولي للتمور السعودية، وبناء منصة موحدة للصادرات، وفتح الأسواق أمام المزارعين. كما أن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية شجعت تأسيس جمعيات تعاونية متخصصة في قطاع النخيل والتمور، مما دعم مبدأ التمكين المجتمعي والاستدامة. تُقام مهرجانات التمور في القصيم، والأحساء، والرياض، والمدينة المنورة، والجوف، سنويًا، وتستقطب الآلاف من الزوار والمستثمرين. غير أن هذه المهرجانات، رغم نجاحها المحلي، لا تزال بحاجة إلى رسالة عالمية تقول: التمر السعودي ليس فقط غذاءً، بل هُوِيَّة، وذاكرة، وهدية من أرض الرسالة إلى العالم. لقد ورد ذكر النخيل في القرآن الكريم أكثر من (20) مرة، وكان التمر زاد النبي محمد ﷺ في حياته. كما وصفه الجاحظ في البيان والتبيين بقوله: النخلة أكرم الشجر، وأجود الثمر، وماؤها يحيي، وثمرها غذاء، وسعفها ظل، وليفها حبال” هذه الرمزية الروحانية والثقافية حَرِيَّةً أن تكون قلب الخطاب التسويقي للتمر السعودي، خاصة في رمضان ومواسم الحج والعمرة. مع اقتراب موسم التمور القادم بعد أربعة أشهر، تتجدد الفرصة أمام المملكة لإطلاق هُوِّية تسويقية جديدة للتمور، لا تقوم فقط على الكميات، والقيمة النقدية، بل على الرواية، والرمزية، والقيمة الثقافية. لن أتحدث عن اقتصاديات التمور، ولا عن الجوانب التسويقية الفنية، فذلك ميدان شهد تحولات إيجابية رائعة، وما زال يحمل وعودًا بالنمو، والازدهار، بل إن المنظومة الوطنية صارت جادة في البناء، ونملك بنية صلبة من المؤسسات والقدرات المتميزة. لكن التحدي الحقيقي اليوم يكمن في الربط بين المنظِّم، والمنتِج، والمسوِّق، لصياغة لغة موحدة، ورؤية مشتركة، ورسم مسارات تنسيقية واضحة، تنقل التمر السعودي من كونه منتجًا وطنيًا ناجحًا ليكون رمزًا عالميًا مُلْهِمًا. بناءً على كل هذا وذاك، أتمنى من جميع الأطراف ذات العلاقة: التكامل والتعاون بفاعلية مع المركز الوطني للنخيل والتمور، خاصة المنتجين، ومصانع التمور والجمعيات التعاونية، وصولًا لرسم سياسة موحدة، موجهة، ومتكاملة، تجعل من التمر قوة ناعمة تمثّل المملكة في قوالب متعددة: غذائية، وصحية، وثقافية، وروحانية. وهنالك سنحتاج إلى محاكاة تجارب الدول التي جعلت من منتجاتها قوىً ناعمة كـ: تجارب اليابان مع الشاي الأخضر، وإيطاليا مع المعكرونة، وفرنسا مع الجبن، ونيوزيلندا مع الكيوي، وإيران مع الزعفران، وكوبا مع السيجار. يقول الفيلسوف الفرنسي رولان بارت: “الأشياء ليست فقط ماهي عليه، بل ما تمثله في مخيال الأمة، قطعة الجبن الفرنسي ليست طعامًا فحسب، بل تمثل فن العيش، وتاريخ الأرض، ونبض الذاكرة الجمعية”. نحلم بتمرٍ سعوديٍّ يحمل روح الوطن، ويصل إلى العالم لا بعبارة “صُنِعَ في السعودية” فقط، بل بـ “طَعْمُ السعودية “ مما يعزز من حضور المملكة – الباذخ - في مؤشر القوى الناعمة العالمي.